د. أحمد القديدي
أتعجب كيف مرت الذكرى الثامنة والخمسون لحرب الخامس من يونيو حزيران 1967 بلا اعتبار ولا مجرد تذكر وهي التي عشناها في شبابنا زلزالا قويا قلب حياتنا ومعتقداتنا وتقييمنا للعروبة رأسا على عقب وأعاد رسم خريطة الشرق الأوسط من جديد بعد فسخ شامل للخرائط التقليدية!
هل انشغلنا بهموم اليوم ونحن في سنة 2025 وفلسطين كلها بقطاعها وضفتها تحت القصف والإبادة منذ السابع من أكتوبر 2023 .
وهل تركت لنا أزمات العرب حيزا لتذكر مأساة حرب يونيو 67 حينما نعيش يوميا حربا أهلية عبثية في السودان وبوادر صراع عنيف في ليبيا وانقسام اليمن الذي كان سعيدا الى أنصار الله المقاتلين وحكومة شرعية ولكن غائبة.
ثم نعلم أن سوريا تخلصت من كابوس الاستبداد الطائفي الأسدي لكنها تواجه محاولات حركات متنوعة لبث الفوضى بالإضافة الى قصف اسرائيلي يهدف الى إجهاض ثورة الشعب السوري وزعزعة استقرار سوريا وما جاورها .
ثم ليس الوضع اللبناني أقل خطرا بالرغم من تمكن الرئيس الجديد (جوزيف عون) من إعادة هيبة دولة فقدت ثقة أغلب شعبها من قبل بسبب الفساد واستسهال حمل السلاح خارج إطار الدولة وتربص الوحش الاسرائيلي بها ظنا منه أنها فريسة سهلة!
أنا شخصيا أدرك هذه الحقائق وأعرف مدى الانشغال بالكوارث اليومية لكن أصر على أن هزيمة العرب يوم الخامس من يونيو 67 مرتبطة أشد الارتباط بأحداث اليوم فهي التي علمتنا درسا قاسيا معلوما في كتاب الله عز وجل وتحديدا في سورة الرعد: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) وندرك نحن جميعا بتأخير 58 عاما أننا غفلنا عن هذه الأية 11 من سورة الرعد وهزل إيماننا الى درجة انتظار تغيير ما بنا من الله تعالى دون أن نغير نحن ما بأنفسنا وهزمنا جيش إسرائيل في 6 ساعات لا في 6 أيام (وهذا قاله لي ولوزرائه الرئيس الحبيب بورقيبة بعد أسبوع من الهزيمة وقد لطفها المهزومون بتسميتها «نكسة» لأن حرب 1967 تُعرف أيضاً في كل من سوريا والأردن باسم نكسة حزيران وفي مصر باسم نكسة 67 وتسمى في إسرائيل حرب الأيام الستة وهي الحرب التي نشبت بين إسرائيل وكل من العراق ومصر وسوريا والأردن بين الخامس من يونيو 1967 والعاشر من الشهر نفسه، وأدت إلى احتلال إسرائيل لسيناء وقطاع غزة والضفة الغربية والجولان وتعتبر ثالث حرب ضمن الصراع العربي الإسرائيلي وقد أدت الحرب إلى مقتل 25,000 شخص في الدول العربية مقابل 800 في إسرائيل وتدمير 70 - 80% من العتاد الحربي في الدول العربية مقابل 2 - 5% في إسرائيل، إلى جانب تفاوت مشابه في عدد الجرحى والأسرى كما كان من نتائجها صدور قرار مجلس الأمن رقم 242 وانعقاد قمة اللاءات الثلاث العربيّة في الخرطوم وتهجير معظم سكان مدن قناة السويس وكذلك تهجير معظم مدنيي محافظة القنيطرة في سوريا، وتهجير عشرات الآلاف من الفلسطينيين من الضفة بما فيها محو قرى بأكملها وفتح باب الاستيطان في القدس الشرقية والضفة الغربية.
وطبعا تعلمون أن تبعات حرب 1967 مستمرة حتى اليوم إذ لا تَزال إسرائيل تحتلّ الضفة الغربية كما أنها قامت بضم القدس والجولان لحدودها وكان من تبعاتها أيضًا نشوب حرب أكتوبر عام 1973 وفصل الضفة الغربيّة عن السيادة الأردنيّة وقبول العرب منذ مؤتمر مدريد للسلام عام 1991 بمبدأ «الأرض مقابل السلام» الذي ينصّ على العودة لما قبل حدود الحرب مقابل اعتراف العرب بإسرائيل والسلام معها رغم أن دولا عربيّة عديدة باتت تقيم علاقات منفردة مع إسرائيل سياسيّة أو اقتصادية.
وأستسمحكم يا قرائي من جيل اليوم أن أقص عليكم كيف عشت شخصيا تلك الحرب وكنت آنذاك في العشرين من العمر: كنا نتابع سرا إذاعة الشرق الأوسط المصرية بسبب الخلاف بين عبد الناصر وبورقيبة كما نتابع بصعوبة إذاعة (البي بي سي اللندنية بالعربية) ومنها يأتينا صوت المبدع (منير شماء) وهذه الإذاعة المعروفة بحيادها النسبي نقلت لنا ليلة الرابع من يونيو 67 صوت مراسلها يتحدث لنا من الجبهتين الإسرائيلية والمصرية قبل ساعات من انطلاق مقاتلات الدولة العبرية لتدمير كل السلاح الجوي لمصر والأردن وسوريا والعراق وأتذكر الى اليوم ما قاله المراسل: على الجبهة الإسرائيلية هدوء تام ولا شيء يوحي بالحرب أما على الجبهة المصرية فأرى الجنود يرقصون وأسمع أناشيد الثورة تهدد إسرائيل بالزوال والرمي في البحر! أي نعم والله! وفهمنا ساعتها أن الموقف الإسرائيلي يعتمد كسب التعاطف الدولي والتمويه بأن شعب اليهود مهدد بهولوكوست يعوض فيه (عبد الناصر) (هتلر) السفاح! أما أنا فاستخلصت بعد هزيمة عبد الناصر الشاملة أن ما وقع جزء من انتقام إلهي للشهيد سيد قطب بعد أن ارتكب عبد الناصر جريمة إعدام الشيخ سيد يوم 29 أغسطس 1966 أي قبل سنة من حرب 67!!
بل نشرت أنا مقالا في صحيفة (العمل) لسان الحزب الدستوري الحاكم بعنوان (القطيعة مع عبد الناصر) وشجعني موقف الزعيم بورقيبة الذي أرسل الى الرئيس المصري رسالة سلمها له سفيرنا بالقاهرة (محمد بدرة) رحمة الله عليه يطلب منه أن يعفو على سيد قطب وألا يقدم على تنفيذ حكم الإعدام الجائر الصادر ضده. كان مقالي يترحم على الشهيد وعلى الناصرية وعلى القومية العربية المغتالة بالاستبداد والشعبوية الصوتية ولا أنكر أن جيلي كان يعتبر عبد الناصر محقق الوحدة العربية والمستعد لتحرير فلسطين وكنا نقرأ بإعجاب قصائد شاعر القومية العربية السوري (سليمان العيسى) ومنها أبيات لم تمحها السنوات مثل:
من المحيط الهادر****الى الخليج الثائر****لبيك عبد الناصر
علمتنا كيف الحقوق تغتصب****وسرت فينا كالنبي المرتقب
وتعلمون طبعا ما حدث لمصر ولعبد الناصر رحمه الله من تبعات تلك الهزيمة: استقالته ثم مسرحية المليونية المطالبة ببقائه لقيادة مرحلة حرب الاستنزاف وبعدها مسح الهزيمة في كبش فداء هو المشير عبد الحكيم عامر واغتياله في شكل انتحار وتعزية رسمية لزوجته الثانية الممثلة الجميلة (برلنتي عبد الحميد).. هذه بعض عبر التاريخ التي تعلمناها من هزيمة الشعبوية والشعارات رغم أن الحق كان وما يزال الى جانب العرب! نحن الذين ضيعنا حقوقنا لأننا ألغينا العقل وفتحنا أبواب الأمزجة والعواطف كما يجري هذا الأسبوع مما يسمى قوافل عربية لفك الحصار عن غزة وإيقاف الإبادة وهي طبعا حركة عفوية لعرب لا يمكن أن يقفوا متفرجين على المظالم لكن الواقع غير ما يتوقعون. وصدق أبو العلاء المعري الذي أنشد منذ ألف عام: «لا إمام سوى العقل».