قانون الفجوة المالية: مواجهة الحقيقة المرَّة؟ _ صلاج سلام


صلاح سلام

ليس مشروع قانون الفجوة المالية والانتظام المصرفي نصاً قرآنياً مُنزلاً، ولا صفحة من الإنجيل تُحرَّم مقاربتها أو تعديلها. هو مشروع قانون حكومي، قابل للنقاش والتصويب والتعزيز، لكنه في الوقت نفسه يشكّل محاولة جدية لكسر حلقة الإنكار والمماطلة التي حكمت أداء الحكومات المتعاقبة منذ انفجار الأزمة المالية في عام 2019. ومن هنا، فإن تحويل المشروع إلى مادة اشتباك سياسي أو ذريعة جديدة لشلّ الإصلاح لا يخدم إلا استمرار الانهيار وتكريس ضياع الودائع.
اللافت أن ردود الفعل على المشروع لم تنطلق فقط من مقاربات تقنية أو قانونية، بل تداخلت فيها الحسابات الانتخابية والاصطفافات السياسية، فبدت بعض المواقف وكأنها دفاع مقنّع عن الأمر الواقع، لا عن حقوق المودعين. فقد ذهبت كتل نيابية وازنة، وفي مقدمتها كتل تمثل مصالح مصرفية مباشرة أو غير مباشرة، إلى تحميل المشروع مسؤولية «ضرب القطاع المصرفي»، متجاهلة أن هذا القطاع إنهار فعلياً منذ سنوات، وأن غياب أي إطار قانوني لإدارة الخسائر هو ما أبقى المودعين أسرى الانتظار والوعود الفارغة.
في المقابل، أبدت كتل أخرى، ولا سيما بعض النواب التغييريِّين وكتل إصلاحية، مقاربة أكثر واقعية تقوم على القبول بمبدأ القانون مع التشديد على ضرورة تعديله بما يضمن حماية صغار ومتوسطي المودعين، وتوزيع الخسائر بعدالة، وربط الانتظام المصرفي بمحاسبة حقيقية لإدارات المصارف والسياسات النقدية السابقة. أما موقف حزب الله الذي عارض وزيراه المشروع في مجلس الوزراء، فبقي في المنطقة الرمادية، إذ أعلن رفضه المسّ بحقوق المودعين، من دون أن يقدّم حتى الآن تصوراً تشريعياً متكاملاً لكيفية معالجة الفجوة المالية، فيما بدت «القوات اللبنانية» في موقع المعترض السياسي، رافعة سقف النقد من دون طرح بديل عملي قابل للتنفيذ.
الأهم في مشروع القانون الحكومي أنه نص على إعادة أموال ٨٥ بالمئة من المودعين الذين لا تتجاوز ودائعهم المئة ألف دولار، وتقديم مبلغ مماثل لأصحاب الودائع المتوسطة والكبيرة، حرصاً على مبدأ المساواة بين اللبنانيين، وبما يعتبر إعترافاً رسمياً بحقهم في ودائعهم، التي كانت حتى الأمس القريب ضائعة بين إنكار الدولة وعجز المصارف عن التسديد، على أن يحصل هؤلاء المودعون على بقية أموالهم عبر سندات مالية صادرة عن مصرف لبنان، ويتم تداولها في الأسواق المالية، مما يُمكِّن أصحابها على بيعها والحصول على السيولة اللازمة لهم في الوقت الذي يرونه مناسباً، وحسب السعر المتداول في الأسواق. في حين أن الواقع المتردي للمودعين اليوم يحرمهم من الحصول على ما يحتاجونه من أموال ودائعهم للإستشفاء أو تسديد أقساط أولادهم في المدارس والجامعات.
وحافظ القانون على إحتياطي الذهب دون المس به حالياً، وذلك بخلاف ما يطالب به بعض أصحاب المصارف ببيع ما يقارب ربع الإحتياطي من الذهب، لتحميل الدولة العبء الأكبر من الفجوة، وتبقى حصة المصارف هي الأدنى. كما نص القانون على مشاركة المصارف مع مصرف لبنان في تمويل مراحل إعادة الودائع، مع إعطاء المصارف حق إستخدام جزء من الإحتياطي الإلزامي للبنوك في مصرف لبنان لإستكمال سداد حصتهم في قانون الفجوة المالية، وذلك من باب الحرص على تخفيف الأعباء على المصارف وتمكينها من إعادة الإنتظام إلى عمل القطاع المصرفي، الذي يبقى ضرورياً وحيوياً للنهوض الإقتصادي.
تكمن خطورة اللحظة الراهنة في أن عرقلة مشروع القانون، أو تفريغه من مضمونه الإصلاحي، سيعني عملياً إعادة إنتاج سياسة دفن الرؤوس في الرمال، وتأجيل الانفجار إلى موعد أقرب وأعنف. فالفجوة المالية ليست اختراعاً تشريعياً، بل حقيقة رقمية ومالية يعترف بها الجميع في الغرف المغلقة، ويتهرَّبون منها في العلن. وأي حديث عن استعادة الودائع من دون الاعتراف بهذه الفجوة وتنظيم معالجتها يبقى وهماً سياسياً لا أكثر.
صحيح أن مشروع القانون بصيغته الحالية لا يجيب عن كل الأسئلة، ولا يبدّد كل المخاوف، لكنه يشكّل مدخلاً إلزامياً لأي خطة تعافٍ جدّية، ورسالة ضرورية إلى الداخل والخارج بأن لبنان مستعد أخيراً لمقاربة أزمته بجرأة، لا بالمسكّنات. فالثقة الدولية لا تُستعاد بالشعارات، بل بقوانين إصلاحية واضحة، تُناقش في البرلمان، وتُعدَّل حيث يجب، وتُقرّ حيث لا بدّ.
المطلوب اليوم ليس تقديس مشروع القانون، ولا شيطنته، بل إخضاعه لنقاش نيابي شفاف ومسؤول، يخرج من منطق تسجيل النقاط السياسية، ويضع مصلحة المودعين والاقتصاد الوطني فوق أي اعتبار. فإما مواجهة الحقيقة المُرّة الآن، أو الإستمرار في دفع ثمنها المضاعف لاحقاً. وفي الحالتين، التاريخ لن يرحم من يختار الهروب مرة أخرى.

صحيفة اللواء
قانون الفجوة المالية: مواجهة الحقيقة المرَّة؟ _ صلاج سلام