في تفاهة ادّعاء أن "الربيع العربي" عِبري _ المهدي مبروك


المهدي مبروك

تبدأ شعوب عربية عديدة تباعاً في إحياء ذكرى ثوراتها. ففي الأيام القليلة المقبلة ستمرّ الذكرى الخامسة عشرة لثورة تونس، ويتواصل الأمر في مصر وليبيا وسورية واليمن... إلخ، من دون اعتبار الحراكات التي اندلعت هنا وهناك، سواء في المغرب أو الجزائر أو حتى الأردن... إلخ. جعلتنا المدّة المنقضية، وناهزت ما يزيد عن عقد ونصف العقد، أكثر بروداً وهدوءاً في تقييم هذه الثورات ومآلاتها. ومع ذلك، قلّما تمّت إثارة تلك العلاقة الملتبسة بين مطلبي المقاومة والديمقراطية التي كانت وراء الثورات العربية. فخلال أحداث "الربيع العربي" استُؤنِف طرح الثنائية المُضنية التي شكّلت صداعاً نصفياً في الفكر العربي بالمعنى الواسع للكلمة: الديمقراطية، والمقاومة والتحرّر. وهي حقيقةً ثنائيةٌ بمثابة الصداع النصفي المُزمِن الذي لا يزال يقسم النُّخب بين مخيّمَيْن كبيرَيْن غير منسجمَيْن.
على خلاف التوقّعات، وُصِم "الربيع العربي" بعدّة صفات، لعلّ أخطرها أنه "ربيع عبري". والحال أن لا شيء يوحي بأن إسرائيل كانت وراء الثورات العربية، فالنخب التي صعّدتها أصوات الانتخاب الديمقراطي الحرّ، سواء في تونس أو مصر، لم تكن ذاهبةً إلى التطبيع، بل الأرجح أنها كانت أقرب إلى مناهضة التطبيع، والحال أن أعلام فلسطين كانت تُرفع في الساحات، سواء في تونس أو مصر، بل إنّ بعضاً من أعضاء حكومة الترويكا في تونس زاروا غزّة (نوفمبر/ تشرين الثاني 2012) بتسهيلات من حكومة مصر، ومن مكر التاريخ أن الرئيس المصري الراحل، محمد مرسي، حوكم بتهمة التخابر مع حركة المقاومة الإسلامية (حماس). فما حصل جزء من إعادة تشكّل مُدركات الناس والتلاعب بها من نخب إعلامية وسياسية، حتى ترسّخت لدى فئات واسعة فكرةُ أن "الربيع العربي عبري"، وأن المقاومة خسرت كثيراً من تحرّر الشعوب العربية. وكان من مكر التاريخ أيضاً أن تتعمّق الثنائية مرّةً أخرى بين الديمقراطية والمقاومة. وجرت حرب باردة حيناً ومستعرة حيناً آخر بين هذَيْن المُخيَّمَيْن، حتى ليُخَيَّل إلينا أن أنصار الديمقراطية مُطبِّعون، أو على الأقلّ مناهضون للممانعة، أو أن من الممانعين مَن هم أيضاً مناهضون للديمقراطية.
تدعّمت هذه الثنائية منذ "الربيع العربي" لأسباب عديدة، لعلّ أهمها أنها شملت أنظمة محسوبة على الممانعين، على غرار النظام الليبي (معمّر القذّافي)، والنظامَيْن السوري واليمني، وكلّها أنظمة تهاوت تحت زحف هدير الثورات العربية.

لقد وقفت هذه الأنظمة منذ البداية ضدّ الثورات العربية (بما فيها النظام الإيراني خارج المنطقة العربية)، وهي كما تلاحظون أنظمة غير ديمقراطية شمولية، غير أنها كانت، فيما يدركه الناس، وبقطع النظر عن حقيقة ذلك أو دقّته، تساند المقاومة الفلسطينية، وبدأ يظهر مصطلح "الممانعة" في سياق تنامي مساعي التطبيع والتطبيع الرسمي.
السبب الثاني مُتعلِّق بذاكرة المقاومة؛ فلا يمكن إلا أن نتذكّر أن الصراع العربي- الإسرائيلي في شكله المسلّح (حروب واشتباكات...) قد تمّ خوضه بشكلٍ ما مع أنظمة استبدادية (جمال عبد الناصر، صدّام حسين، حافظ وبشّار الأسد، إيران...)، وهي أنظمة تنكر في عقيدتها السياسية الديمقراطية، حتى في شكلها الأدنى الليبرالي، على غرار التعدّدية السياسية الحقيقية والانتخاب الحرّ للحاكم والتداول السلمي على السلطة. ويمكن أن نسحب ذلك على فصائل فلسطينية كثيرة خاضت صراعات وحروباً من دون أن تعزّز الديمقراطية في عقيدتها السياسية بشكل فكري، وليس مجرّد وحدة الصفّ، باستثناء بعض التنظيرات في فكر فتحي الشقاقي (مؤسّس حركة الجهاد الإسلامي الفلسطينية). والغريب أن الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين مثلاً لم تطوّر أدبياتها في اتجاه تدقيق معنى الديمقراطية وترسيخها، وظلّت يسارية متشدّدةً تنكر في الحقيقة الديمقراطية باعتبارها ترفاً برجوازياً بالمعنى الماركسي.
بعد أكثر من عقد ونصف العقد من اندلاع الثورات العربية انتهت تجارب الثورات العربية وتجارب الممانعة إلى نتيجتَيْن مخيّبتَيْن: خسران معركة الديمقراطية و"طرد الإسلام" من الديمقراطية، بعد أمل راودنا جميعاً، هو وضع حدٍّ لاستعصاء الإسلام عن الديمقراطية. ووصم المقاومة بالتطرّف والإرهاب، وهي التي غدت إسلاميةً ("حماس"، "الجهاد الإسلامي"، حزب الله، الحوثيون... إلخ). وفي الحالة الأولى أو الثانية، رُسِّختْ الإسلاموفوبيا. ولكن، استطاعت غزّة أن تذلّل هذه الصورة الظالمة، وتمنح بعداً كونياً للمقاومة باعتبارها حقّاً إنسانياً لا يمكن التنازل عنه.

العربي الجديد
في تفاهة ادّعاء أن "الربيع العربي" عِبري _ المهدي مبروك