أحمد عمر
يعلل المفكّر المصري عبد الوهاب المسيري كثرة الوحوش والمسوخ والأشباح المرعبة في الأفلام الأميركية وقصصها وآدابها بالحاجة إلى الخوف والغيب، بعد أن وهن الدين وانحسر في نفوسهم. بل إنّ أبطال السينما الأميركية مسوخ، مثل: الرجل الوطواط، والرجل الذئب، وسبايدرمان، وميكي ماوس، وبلغ بهم الضلال أن جعلوا أحد أبطالهم الرجل الناري، أمّا الكائنات المشوّهة الكثيرة القبيحة، فكثيرة.
سعت "هوليوود" إلى ترويض هذه الوحوش في سلسلة من الأفلام والمسلسلات، أشهرها "الصرخة"، وهو فيلم يجمع بين الكوميديا والرعب، وفيلم "شركة الوحوش" الكرتوني. وقد يكون فيلم فرانكشتاين الذي أصدرته "نتفليكس" أخيراً من هذه الصياغات والمخلوقات الخارقة، أو محاولةً في تجديد الحبكة الدرامية. فالسأم، كما يرى الروائي الإيطالي ألبرتو مورافيا في روايته "السأم"، ألدّ خصوم الإنسان، وهو "أبو الاختراع والجريمة"، كما أنه أحد بواعث الرغبة في الابتداع.
هو فيلم مأخوذ من قصة الإنكليزية ماري شيلي (1797-1851). كتبت هذه القهرمانة "أم المراعب" في نحو الثامنة عشرة من عمرها. وصوّرت في السينما اقتباساً مباشراً، أو تصحيفاً وتأويلاً أكثر من 400 مرّة، وكانت قد كتبتها في منافرة بينها وبين زوجها، أيهما يكتب أرعب قصة وأفزع. وإن المخلوق من الجثث أخذ اسم العالم الذي اختارت له المؤلفة اسم فرانكشتاين، وأن يوصف بأنه المخلوق والخرافة والوحش والشيطان كما في النص الأصلي أولى. والفيلم الذي أنتجته "نتفليكس" أقرب الاقتباسات إلى روح النصّ الأصلي من ناحية آدمية الوحش ولطفه ورقته، فقد استغرق الوحش 200 سنة حتى رقَّ ولطف وتاب وأناب.
شاهد فرانكشتاين الوحش التائب نحو ثلاثين مليون مشاهد في الأيام الثلاثة الأولى لعرضه. وقد تسلّلت إليه حبكة جانبية هي حبكة "الحسناء والوحش"، إذ تموت الحسناء إليزابيت بين ذراعي فرانكشتاين، وكأنها تهبه روحها وتضحّي بنفسها من أجله، فيَفِها الوحش تضحيتها أحسن الوفاء. وحش "نتفليكس" وسيم حسن الهيئة هذه المرّة، أنيسٌ وإنْ ممزّق الثياب، يضع قلنسوة "الحصّاد" الشهيرة في أفلام الرعب، وله صوت مخيف. وهو وحش تروّضه الطبيعةُ والحسناءُ ووصايا الراعي الأعمى؛ فهو يطعم الغزلان في البرية، ويلجأ إلى بيت الأقزام في الغابة، فيرعاه شيخهم الأعمى، وهو قاتلٌ تائب. والطبيعة البِكر أمّ حنون تغسل الروح. تسري روح مسيحية خفية في الفيلم وتكاد تقول إنّ الخطيئة ليست أبدية ويمكن التطهر منها.
ليس وحش فرانكشتاين بدعاً من التأليف؛ فقد سبقته وحوش وكائنات تمرّدت على صانعها، مثل فيلم الرجل ذو القرنين (باي سنتيل مان) من بطولة روبن ويليامز، الذي يجسّد فيه دور روبوت يُدعى "أندرو" يتطور تدريجيّاً من معدن وآلة إلى كائن بشري، ويطالب بحقوقه الإنسانية، بما فيها الزواج أو الموت. وكذلك سلسلة الترمينيتور، وكائنات الريبليكانت في جزأيه (بلود رنر)، والحاسوب الواعي في أوديسة الفضاء، والروبوت في أكس ماشين، والديناصورات المستنسخة، و"ألترون"، والمخلوقات في "ذا ماتريكس"، والروبوت "سوني".
يُرجَّح أن الحبكة الأساسية حبكة أوديبية وصراع أجيال، يمكن أن يكون فرانكشتاين نسخةً من أفلام "المريض النفسي الهارب" أو "القاتل المتسلسل"، لكنه هذه المرة قاتل يبغي قتل صانعه وخالقه الذي جنى بخلقه عليه. لقد انتقل الصراع في النسخة الجديدة من انتقام المخلوق من خالقه وتمرّده على أبيه، إلى المخلوق الذي يريد حبيبة أبيه، وهي نظرية مشهورة في الغرب لفهم صراع الأجيال، مع أنه مخلوق عديم الذاكرة قليل الدوافع للانتقام. اسم الأب فكتور ومعناه "النصر"، لكن النصر مهزوم.
سخر اليابانيون من النظرية الأوديبية، وهي لا تصدق على العرب. فقد رفض أبو طالب دخول الإسلام غيرةً على آبائه، وأطاع إسماعيلُ أباه إبراهيمَ عليهما السلام، وكذلك فعل عبد الله الذي أخذه أبو عبد المطلب ليذبحه لنذر نذره.
ليس في الآداب العربية وقصص العرب مسوخٌ بالمعنى الغربي؛ فالمسخ عقوبة، والإنسان أكرم مخلوق خلقه الله. والمخلوق الوحيد الذي اشتُبه بالمسوخية هو عفّاشة بن عيروض في سيرة سيف بن ذي يزن، وهو من عفاريت الجن. أمّا وحوش حكايات ألف ليلة وليلة ففارسية غالباً.
ثمة علامات على نشوء رغبة ثقافية وطلابية أميركية في التخلّص من "المخلوق الفرانكشتايني"؛ إسرائيل، التي صنعتها أميركا، وهي دولة علم، فصار مخلوقها وحشاً، والضحايا معروفون.
العربي الجديد