غزة.. قصة موت مُعلن! _ عصام بيومي


عصام بيومي

في روايته، "قصة موت معلن"، يروي الكولومبي جابريل جارسيا ماركيز حيثيات جريمة قتل شاب دفاعا عن الشرف بعدما اتهمته فتاة باغتصابها. يحدث ذلك عندما تتزوج الفتاة ويعيدها الزوج إلى أهلها ليلة الزفاف عندما يكتشف أنها ليست عذراء. رسالة القصة باختصار أن عملية القتل التي ينفذها شقيقا الفتاة تتم رغم إعلان الأخوين للجميع نيتهما قتل المتهم الذي لا ينبهه أحد ولا يمد له يد العون رغم "براءته".

وفي غزة "قصة موت معلن" مشابهة، أكثر قسوة وإيلاما، إذ تتكرر يوميا، بعدما تحولت مراكز توزيع المساعدات إلى مصائد معلنة للموت.

وهكذا، يوما بعد يوم، يتأكد معنى كنا نظن في بداية عملية الإبادة الجارية استحالة تحققه... الآن تعززت الدلائل والمعلومات التي تؤكد أن أعداء الإنسانية ينفذون بالفعل خطة ممنهجة لإبادة أهل غزة عن بكرة أبيهم.

هذه الدلائل والمعلومات تكررت في الشهور الماضية لكن وضعتها في دائرة الضوء مرة أخرى دراسة للصهيوني ياكوف غارب، من جامعة بن جوريون الإسرائيلية، ونشرها على منصة تابعة لجامعة هارفارد الأمريكية أخيرا. فُهِم من الدراسة لدى نشرها أن

أكثر من 377 ألف فلسطيني، قتلوا أو "اختفوا" منذ بدأت إسرائيل عدوانها على القطاع في أكتوبر 2023..

وكعادة الآلة الصهيونية وأذرعها الممتدة في كل مكان، وبمجرد ظهور رد الفعل الغاضب إزاء الرقم الضخم لضحايا المحرقة الصهيونية، سارعت تلك الأذرع إلى نفي صحة الرقم، والتعلل بأن الدراسة أسيء فهمها. وغيرت مواقع عدة روايتها، أو تم منع الوصول إليها، ومنها موقع "المهد" (Cradel).

غير أن كل محاولات طمس الحقيقة لن تفيد، إذ إن أي متابع لعملية القتل اليومي في القطاع يعرف ويفهم بما لا يدع مجالا للشك أن عدد الضحايا هو أضعاف المعلن حتى برغم عدم اعتماد سلطات غزة لهذا الرقم وإعلانها أن إجمالى عدد القتلى لا يزال يقل عن 57 ألفا. أكد ذلك واعترف به كاتب صهيوني هو نير هاسون، في هآرتس، حيث أشار بحسب باحثين إلى أن عدد قتلى غزة لا يقل عن 100 ألف. وقال، مستغربا، إن وزارة الصحة الفلسطينية تقلل من العدد ومن حجم الكارثة. وأقر بأن المجاعة والأمراض، واستهداف القوات الإسرائيلية لتجمعات توزيع المساعدات جعلت الحرب على غزة واحدة من أكثر الحروب دموية في القرن الـ 21.

وكانت دراسة نشرتها مجلة "لانسيت" الطبية قبل نحو عام، قد ذكرت أن الآثار التراكمية للحرب على غزة قد تؤدي إلى ارتفاع عدد القتلى الفعلي إلى أكثر من 186 ألف شخص.

وقالت الدراسة، حينئذ، إن عدد القتلى أعلى بكثير لأن العدد الرسمي لا يأخذ في الاعتبار آلاف القتلى المدفونين تحت الأنقاض والوفيات غير المباشرة بسبب تدمير المرافق الصحية وأنظمة توزيع الأغذية والبنية التحتية العامة الأخرى.

وأضافت أنه حتى لو كانت الحرب توقفت في ذلك الوقت، قبل عام، لاستمر سقوط القتلى، نتيجة الآثار غير المباشرة، لشهور وربما لسنوات. وأضافت أن أعداد القتلى نتيجة الآثار غير المباشرة للحروب تتراوح بين 3 إلى 15 ضعفا للرقم المباشر لقتلى الحرب العسكرية.

مصدر آخر بالغ الأهمية يعزز ما تم نفيه في تقرير ياكوف غارب، هو تسريب نشرته صحيفة هآرتس، أيضا، في مايو 2024 ويقر فيه الموساد الإسرائيلي بأن عدد القتلى وقتها كان لا يقل عن 200 ألف قتيل.

وبغض النظر عن كل الدلائل فهناك ما لا يمكن الخلاف عليه وهو عقيدة الإبادة التي يعلنها الكيان وكل من ينتمي إليه بلا خوف أو حتى إحراج في كل ما يتسنى لهم من وسائل إعلامية.

ربما نتفهم عدم إعلان سلطات غزة للأرقام الضخمة التي تناولتها المصادر المختلفة المشار إليها، نظرا لعدم توفر الإمكانيات الفعلية للإحصاء لديها في ظل حقيقة وجود أعداد مهولة من الضحايا تحت أنقاض البيوت المدمرة التي تصل إلى نحو 70 % من بيوت القطاع، وربما لرغبة تلك السلطات في تجنب إثارة الفزع بين السكان. لكن الذي لا يمكن تفهمه هو استمرار الصمت المطبق من الحكومات والهيئات الطبية والإنسانية الدولية، رغم اطلاعها على تلك الأرقام المخيفة لضحايا المحرقة في غزة، الذين يذهبون كل يوم إلى موت معلن فِعْلي.. فعندما تستوي الحياة والموت، يصبح الوقوف في طوابير الغذاء نوعا آخر من الاستسلام للموت على أمل الفوز بالحياة...

الذين يذهبون كل يوم للوقوف في طوابير للحصول على أي قدر من الغذاء، وهم يعلمون أن احتمال موتهم هناك لا يقل عن احتمال عودتهم إلى ذويهم سالمين، أولئك في الحقيقة سلموا أنفسهم لموت معلن بعدما لم يعد إلاّه طريقا وحيدا للحياة، فهم من دون غذاء ميتون لا محالة، ولكن في طوابير الموت، أقصد الخبز، قد تكتب لهم الحياة!

الآن، قصة الموت المعلن عندنا معكوسة، فغزة متروكة وحدها، بل يسهر البعض على خدمة قاتلها.

صحيفة الشرق القطرية
غزة.. قصة موت مُعلن!  _ عصام بيومي