صلاح سلام
ليس مستغرباً في السياسة اللبنانية، أن تبادر بعض الأطراف المحلية، إلى إستغلال كل بارقة أمل لتصور نفسها بأنها من صانعيها، ولتظهير كل صدمة إيجابية بأنها من مسببيها.
الإختراق الكبير الذي تحقق من خارج صندوق المنظومة السياسية، بإنتخاب العماد جوزاف عون رئيساً للجمهورية في جلسة واحدة، وما تبعه من مفاجأة تكليف القاضي الدولي نواف سلام تشكيل الحكومة، خلافاً لكل التوقعات الحزبية والسياسية، حقق نقلة نوعية في الحركة السياسية، يتهافت بعض النواب والسياسيين وغيرهم من المعنيين، على تسجيلها في حسابهم الشخصي، سواء بحجة التصويت لقائد الجيش، أو بسبب الأسبقية في ترشيح رئيس محكمة العدل الدولية، بمواجهة مرشح الثنائي أو غيره من النواب الآخرين.
وجماعة مثل هذه الإدعاءات المبالغ في تكبير حجم أصحابها، يتجاهلون وقائع الحياة السياسية اللبنانية وتاريخها الحافل بشتى التدخلات والمؤثرات الخارجية. ويحاولون القفز منها إلى حلبة الصراعات الداخلية، التي تُشبه طواحين الهواء في فترات الزمن الضائع، حيث يكون الخارج منشغلاً بملفات أكثر حيوية من الملف اللبناني.
ثمة من يتجاهل أن رؤساء جمهورية لبنان، طوال العهد الإستقلالي كانوا «صناعة خارجية»، بإستثناء الرئيس الخامس سليمان فرنجية، الذي فاز بفارق صوت واحد فقط عام ١٩٧٠. وأن أول رئيس حكومة في العهد الجديد يتم التوافق عليه بين عواصم القرار الخارجي مع صفقة رئيس الجمهورية، وأن العهد الجديد يتمتع بفترة سماح دولية لا تقل عن الثلاثة أشهر على الأقل، تجاريها فترة مماثلة في الداخل، تنصرف خلالها معظم الأطراف بالإشادة شبه اليومية بالعهد وصاحبه، وتمنح الثقة للحكومة بعد مناقشات صورية للبيان الوزاري.
وما جرى في العشر الأيام الاخيرة لا يختلف أبداً عما كان يجري في العهود السابقة، مع فارق أساسي، أن لبنان اليوم هو تحت المراقبة (حتى لا نقول تحت الوصاية) الدولية، من خلال لجنة الدول الخماسية، التي تضم كُلاً من : أميركا والسعودية وفرنسا ومصر وقطر، فضلاً لجنة المراقبة العسكرية برئاسة أميركية.
ولم يعد خافياً أن الخماسية وضعت مواصفات لرئيس الجمهورية العتيد، لم يستطع أحد تخطيها، والتي تنطبق بشكل شبه كامل على قائد الجيش العماد جوزاف عون. حيث لم يفلح حتى حزب لله والثنائي في تخطيها، وعادوا إلى السير بها، تجنباً لتهم العرقلة وما قد يتوجب عليها من عقوبات دولية. كان الزعيم وليد جنبلاط أول من قرع جرس تأييد عون للرئاسة. و«الرادارات» الجنبلاطية نادراً ما تُخطىء. أما ترشيحات الكتل النيابية الأخرى فبقيت أصواتها هباءً منثوراً.
ومع كل الإحترام والتقدير لمقولة «المجلس سيّد نفسه»، فإن الأكثرية النيابية إلتزمت بكلمة سر «الروح القدس» الآتية من الخارج، وإنتخبت قائد الجيش رئيساً، رغم كل المعارضات والتحفظات السابقة.
وما جرى في تكليف القاضي نواف سلام بتشكيل الحكومة، يشبه كثيراً ما حصل في الإنتخابات الرئاسية. مواصفات الخماسية كانت الأساس في تحديد شخصية الرئيس المكلف. والإشكالية الأولى كانت تكمن في تشرذم أصوات المعارضة والتغييريين وعدد من المستقلين. كتل المعارضة النيابية رشحت النائبين فؤاد مخزومي وأشرف ريفي من معراب. النواب التغييريون أعلنوا ترشيح زميلهم إبراهيم منيمنة. فيما الثنائي الشيعي وحلفائه، المنظورين وغير المنظورين، أيدوا الرئيس نجيب ميقاتي، الذي نام ليلة الأحد مرتاحاً على حجم الأكثرية التي تؤيده.
وفي حين كانت كل الإحصاءات تصب في مصلحة رئيس حكومة تصريف الأعمال، كان النائب في اللقاء الديموقراطي مروان حماده يُعلن تأييد ترشيح نواف سلام لرئاسة الحكومة، وهي خطوة لم يُعرها الثنائي الشيعي، ولا كتل التغيير الإهتمام اللازم، على إعتبار أن الأمور تسير في إتجاه آخر.
مواصفات الخماسية لرئيس الحكومة تنطبق على واقع نواف سلام، القادم من خارج المنظومة السياسية، والبعيد كل البعد عن مستنقعات الفساد النتنة، والمتمتع بصفات الكفاءة والنزاهة التي أوصلته إلى أرفع محكمة في العالم، والقادر على إستعادة ثقة الخارج بسرعة بحكم علاقاته وخبرته في العمل مع المؤسسات الدولية.
هذه المعطيات دفعت الخماسية إلى تشجيع ترشيح رئيس المحكمة الدولية لرئاسة الحكومة، وجاءت مباركة «الروح القدس» لتقلب الموازين صبيحة يوم الإستشارات.
تلك هي خلفيات ووقائع إختيار العماد عون والقاضي الدولي سلام لقيادة مرحلة الإصلاح والإنقاذ، وإخراج لبنان من جهنم الأزمات إلى جنان الحلول والإستقرار والإزدهار.
وأما ما نسمعه في المنتديات وعلى شاشات التلفزة، وما يتم تداوله على وسائل التواصل الإجتماعي، فيبقى أشبه بروايات عنترة بن شداد!!