عندما ينتصر الموت على السيف ! _ عصام بيومي


عصام بيومي

لوحة «انتصار الموت» للفنان الهولندي بيتر بروغل الأكبر، - رسمها حوالي عام 1562- وقت اشتداد الحروب الدينية في أوروبا، وعلى خلفية مشهد موت مخيف سببه وباء

الطاعون أواخر العصور الوسطى، ولم تكن قد تعافت من آثاره بالكامل.

تعتبر اللوحة واحدة من أشهر الأعمال الفنية وأكثرها خضوعا للتحليل الفني والسياسي، وذلك لما تحمل من إسقاطات دينية وسياسية ورموز ومعان عميقة حول صراع النفوذ والتوسع، والموت والحياة، أو ما يسمى، أيضا، «رقصة الموت»، لأن بروغل رسمها زمن اجتياح إسبانيا لبلاده هولندا، ولا يستبعد مساهمة اللوحة في تفجير ثورة الاستقلال الهولندي عن إسبانيا بعد رسمها وظهورها بأربع سنوات فقط عام 1566.

ومن المعاني التي توحي بها اللوحة أن المنتصر ليس بالضرورة دائما هو الذي يبقى بعد زوال خصمه. فقد يكون المقاوم بعد موته أطول بقاء من المنتصر الظالم، كما قال عمر المختار «سيكون عمري أطول من عمر شانقي»!

ومن المعاني المهمة التي رآها النقاد أيضا في اللوحة، فكرة أن الموت نهاية حتمية لجميع البشر على اختلاف مناصبهم ومشاربهم، وأن الأضعف ظاهريا قد يكون هو المنتصر، حقيقة وفعلا، أو حتى رمزا، وذلك عندما يتساوى مع ظالمه في الموت.

وهذا يحيلنا مباشرة إلى مشهد غزة، فاللوحة تجسد بشكل شبه متطابق مشهد الموت والدمار في القطاع. تصور اللوحة أكداسا من الجثث وأفواجا من الهياكل العظمية، التي يقودها الموت ويجسده رسم شخص يرتدي رداء أحمر اللون. وتبدو هياكل الموت متحركة وسط منظر عام من الدمار والخراب والنيران على البر وفي البحر، بينما المعتدي، وهو هنا الموت ذاته، يقود الحرب على البشر ولا يميز بين مقاتل وطفل أو امرأة أو شيخ. في تلك اللوحة، لا يوجد مكان آمن من الموت، الذي يطال الجميع، تماما مثل غزة. وينقسم الناس بين مجموعة مذعورة تحاول الهرب ومجموعة تقرر القتال حتى الموت.

هذا المعنى سجله كثيرون عبر التاريخ، وأولهم الحسين بن علي رضي الله عنه، بقولته الشهيرة: «لم أخرج لا أشراً ولا بطراً ولا تكبراً ولا ظالماً ولا مفسداً»،،،

عندما أدرك أن لا سبيل إلى النصر إلا بالثبات والتضحية، فكان دمه انتصارا على سيف قاتله. وهو الموقف الذي تولدت منه عبارة «عندما ينتصر الدم على السيف».

وقد استلهم كثيرون ذلك المعنى في تمجيد المقاومة والبطولة. ومن هؤلاء المهاتما غاندي، الزعيم الروحي التاريخي للهند وقائد ثورة تحريرها من الاحتلال الإنجليزي. يقول: «تعلمت من الحسين كيف أكون مظلومًا فأنتصر».

كما استلهم الثائر الكولومبي تشي جيفارا كلمات الحسين، ونظم عبارات خاصة عن الحرية والإنسان قال فيها: «على جميع الثوار في العالم الاقتداء بتلك الثورة العارمة التي قادها الزعيم الصلب العظيم، الحسين، والسير على نهجها لدحر زعماء الشر والإطاحة برؤوسهم العفنة».

الشاعر الفلسطيني الشهيد عبد الرحيم محمود، بدوره صاغ كلاما يمضي في السياق ذاته، وإن لم يذع صيته، فقد كانت حياته قصيرة لم تتجاوز الـ 35 عاما، حيث ولد عام 1913 واستشهد في 13 يوليو 1948، مدافعا عن وطنه بالقرب من قرية الشجرة في شمال فلسطين المحتلة، فقد أصابته قذيفة في عنقه، وهو يقاتل العدو، وكان يتمتم وهو محمول على أكتاف زملائه في المقاومة بأبيات أشهرها يقول:

سأحمل روحي على راحتي

وألقي بها في مهاوي الردى

فإما حياةٌ تسر الصديق

وإما ممات يغيظ العدا

ونفس الشريف لها غايتان

ورود المنايا ونيلُ المنى

لَعَمْرُكَ هذا ممات الرجال

ومن رَامَ موتـًا شـريفًا فَذَا

ومـا العيش؟ لا عشـت إن لـم أكـن

مخــوف الجنــاب حـرام الحـمى.

... وأحسب أن غزة بدمائها وشهدائها ستنتصر على كل سيوف قاتليها وسينتصر موتها على كل سيوف إجرامهم وظلمهم، لأن الظلم لا ينتصر للأبد، فربما يكسب جولة أو حتى جولات ثم يمحقه الله «بعز عزيز أو بذل ذليل».

نعم، سينتصر الفلسطينيون على عدوهم الصهيوني لأن هذه الحرب ليست من النوع الذي يمكن لكل طرف فيها الزعم بأنه هو المنتصر، ولأن العدو هو الذي جعلها حرب وجود، ومعادلة صفرية، إما أنتم وإما نحن.

سينتصر الفلسطينيون، بدمائهم وموتهم، على الطغيان والظلم والخيانة والخنا، لأنهم سيعودون حتما في أصلاب أبنائهم وذرياتهم جيلا بعد جيل، ليزيلوا عدوان الصهاينة ومن يوالونهم.. وعندما يعود الفلسطيني ابنا أو حفيدا سيكون المجرم الصهيوني قد اندحر وانهزم،، وهنا سيتحقق انتصار الموت على سيف ظلم الصهيوني الذي يحاول تحدي إرادة الخالق، إذ يظن أن بإمكانه الخلود في الأرض، ويظن أن العِلم سيُمكنه من ذلك.

وكأننا أمام لحظة يعيد فيها التاريخ نفسه بتكرار مشهد لوحة «انتصار الموت»، حيث تسود الحرب الدينية وإن بمواصفات مختلفة بعض الشيء، وينتشر الموت والدمار وتتصارع الإرادات السياسية، والعقدية، في عالم أصبحت دفة مستقبله في أيدي مشعلي الحروب الذين يقابلهم في اللوحة «الموت» وجيشه المكون من الهياكل العظمية، التي لا يتصدى لها إلا مقاومون حقيقيون مثل أهل غزة.

صحيفة الشرق القطرية
عندما ينتصر الموت على السيف ! _ عصام بيومي