ذكاء حماس ونرجسيّة ترامب _ حلمي الأسمر


حلمي الأسمر

ليست العلاقة بين حركة حماس والرئيس الأميركي دونالد ترامب مجرّد تراشقٍ سياسي أو اختلافٍ في المواقف، بل يمكن اعتبارها من أغرب التفاعلات النفسية والسياسية في الشرق الأوسط المعاصر، فمنذ تولّى ترامب الرئاسة، وهو يتأرجح بين التهديد بإبادة الحركة، مع فتح أبواب الجحيم على غزّة، والإشادة الصريحة بذكاء قادتها وشجاعتهم، بل واعترافه الضمني بأنهم يفكرون بطريقة تشبه طريقته، من دون أن يفصح صراحة عن هذا. وفي المقابل، حافظت "حماس" على رباطة جأش نادرة، فلم ترد بانفعال على تهديداته، ولا انبهرت بإطرائه، بل سلكت مساراً هادئاً ومدروساً، يوحي بأنها قرأت شخصية ترامب أكثر مما قرأ هو حقيقتها.

في العمق النفسي لشخصية ترامب، تختبئ تركيبة معقّدة من النرجسية الاستعراضية والهوس الرمزي بالانتصار، هو رجلٌ لا يهمّه المبدأ بقدر ما تهمّه الصورة؛ لا يرى السياسة قضية أخلاقية أو استراتيجية، بل "مباراة على المسرح العالمي"، حيث يجب أن يكون هو الفائز دائماً، ولو بالكلام فقط، لهذا كان ترامب يمدح الخصوم الذين يبدون شجاعة أو مكراً استثنائيّاً، حتى لو كانوا أعداءً لأميركا، فقد أبدى إعجابه بكيم جونغ أون وبوتين وقادة طالبان، والسبب نفسه جعله يصف قادة "حماس" بأنهم أذكياء وشجعان من الناحية النفسية، كان يرى فيهم انعكاساً لذاته المتمرّدة التي تتحدّى العالم وتفاجئ الخصوم رغم العزلة والعقوبات. إنه ببساطة يحبّ من يشبهه في الجرأة، ويتمنى لو كان في موقعهم حين يتحدّون قوى أكبر منهم، لكن هذه الإعجابات العابرة لا تلغي الجانب الآخر في شخصيته: الرغبة المرضية في السيطرة والإذلال. ولهذا سرعان ما يتحوّل إعجابه إلى تهديد، ومدحه إلى وعيد، كما فعل حين قال إنه سيجعل من غزّة "ريفيرا جديدة" بعد تدمير "حماس"، أو حين تحدّث عن "فتح أبواب الجحيم" عليها.

في الجهة المقابلة، أظهرت "حماس" براعة نادرة في التعامل مع ترامب، لا من منطلق الضعف أو التملّق، بل من فهم عميق لنمط شخصيته، فهي تدرك أن على من يقف أمام ترامب أن يتقن الصمت حين يغضب، وأن يُظهر الذكاء لا الخضوع، وأن يتحدّث بمنطق القوة لا الاستجداء. حين طرح ترامب خطته للسلام في المنطقة العربية ووقف إطلاق النار في غزة، رفضتها "حماس" بالصورة التي أعلنها ترامب، من دون أن تعلن ذلك، بل تعاملت معها بمرونة نادرة، بل لم توجّه سهامها نحوه شخصيّاً، وركزت على جوهر المشروع الصهيوني فيها، وأعلنت موقفاً اعتبره ترامب موافقة تامة على مشروعه، وفرح بهذا الرد (نعم ولكن، الذي اعتبره نتنياهو رفضاً باتّا!)، ثم سارع إلى ترجمة الرد بكل ما فيه من لغة ومصطلحات "حماسية" فلسطينية، ونشره على منصته "تروث" بعد دقائق من وصوله إليه. وبهذا الفصل الذكي بين ترامب شخصاً وترامب أداة سياسية، حافظت الحركة على مساحة مرنة في الخطاب، من دون أن تخسر ثوابتها. وحين مدحها بعد ذلك، لم تقع في فخ الاستعراض الإعلامي أو الانفعال، بل تعاملت مع الموقف إقراراً واقعيّاً بأن العدو بدأ يرى قوتها الحقيقية. لقد تعاملت مع ترامب كما يتعامل لاعب شطرنج مع خصم نرجسي: تحترم غروره بما يكفي لتجنّب استفزازه، كي لا يقلب الطاولة، لكنها لا تمنحه الفرصة ليفرض قواعده النفسية على اللعبة. ولذلك، بقي ترامب في حيرته: لا يستطيع في أعماقه أن يكره "حماس" تماماً، ولا أن يصفها بالحماقة، لأنها ببساطة كانت تستخدم لغته ذاتها، ولكن بوعي أكبر.

ليست العلاقة بين ترامب و"حماس" عداءً خالصاً ولا إعجاباً صافياً، بل هي اشتباك نفسي معقّد يقوم على تبادل الرموز لا المصالح المباشرة. ترامب يهدّد ليُثبت أنه الأقوى، لكنه في قرارة نفسه يعرف أن تهديده لا يعني شيئاً أمام واقعٍ يفرضه مقاتلون محاصرون في شريط صغير من الأرض، حققوا ثباتاً وصموداً ليس أمام الكيان فقط بل أمام من هم وراءه ومنهم وأهمهم ترامب نفسه. وحماس تدرك أن هذا الرجل لا يحكم بعقله فقط، بل بغروره أيضاً، ولذلك تعاملت مع غروره حقيقة يمكن إدارتها، لا مصيبة يجب الهروب منها. في لحظة ما، بدا ترامب وكأنه يحترم "حماس" أكثر مما يحترم بعض حلفائه العرب الذين انبطحوا أمامه، فهو يرى في الخضوع ضعفاً، وفي التمرّد شجاعة، حتى لو صدر من خصومه. أما "حماس"، فقد أدركت أن هذا النوع من الزعماء لا يُفهم من خلال المواقف الرسمية، بل من خلال غريزته للهيمنة ورغبته في الانتصار، حتى ولو كان رمزياً!

قد يظن بعضهم أن ترامب كان يتحدّث من فراغ، لكن الحقيقة أن مدحه "حماس" يعكس اعترافاً غربياً غير معلن بأن القوة الميدانية للمقاومة تجاوزت حدود التوصيف الإرهابي، فحتى أكثر الزعماء غروراً في الغرب باتوا يروْن فيها نموذجاً لقدرة الفكرة على تحدّي الإمبراطورية، أما حماس، فقد أثبتت في علاقتها مع ترامب أن المعركة مع أميركا ليست بالضرورة صفرية، وأن فهم الشخصية الأميركية (لا معاداتها فقط) جزء من إدارة الصراع. لقد نجحت في أن تحوّل التهديدات إلى مادة سياسية وإعلامية، والإهانات إلى إشارات على خوف الخصم من بقائها. في نهاية المطاف، فشل ترامب، بكل جبروته الإعلامي والسياسي، في كسر "حماس"، كما فشل في فهم جوهرها، لكنه، في لحظات نادرة من الصدق، اعترف بما لم يجرؤ غيرُه على قوله، إن هؤلاء المقاتلين الذين لا يملكون شيئاً سوى إرادتهم أذكى وأشجع من كثيرين في عواصم القرار العربي والغربي. أما "حماس" فقد خرجت من تجربتها مع ترامب أكثر وعياً بالنفس الأميركية، وأكثر قدرة على المناورة في حقلٍ تحكمه الشخصيات المضطربة والمصالح المتقلبة. لقد واجهت "الزعيم النرجسي" ببرودٍ نفسي محسوب، وعرفت كيف تحافظ على مصالحها من دون أن تنكسر أو تتورّط في لغة الخضوع. وهكذا، يظلّ المشهد كما هو: ترامب يهدّد ويمدح في الوقت نفسه، وحماس تصمت وتواصل طريقها بثبات، كأنها تقول له وللعالم أجمع: "لسنا انعكاساً لغضبك ولا امتداداً لجنونك. نحن ببساطة نعرفك أكثر مما تعرف نفسك".

إلى أين سيستمر هذ المشهد المعقد؟ يعتمد هذا طبعاً على كم كبير من التفاعلات والتطوّرات، لكن ما هو مؤكّد أن لدى "حماس" من المرونة والإيمان ما يجعلها عصيّة على الانكسار، أو رفع الراية البيضاء التي انتظر نتنياهو وكثيرون غيره رؤيتها تخرج من فوهة نفق!

العربي الجديد
ذكاء حماس ونرجسيّة ترامب _ حلمي الأسمر