أسامة أبو ارشيد
إذا كانت الأوهام لا تزال تراود بعض العرب، والقوى الإقليمية، حول التهديد الإسرائيلي للمنطقة برمّتها، فربّما تكون هذه هي اللحظة المناسبة للاستفاقة والاستيقاظ، فأن تعترف متأخّراً بالخطأ وتُصلح الخلل خيرٌ من الاستمرار في خداع الذات. تطوّرات عديدة في الأشهر والأسابيع والأيام الماضية كانت بمثابة أجراس إنذار تطرق على الرؤوس، منبّهةً إلى الحقيقة القديمة المتجدّدة، إسرائيل تمثّل تحدّياً للجميع في منطقةٍ يُراد لها أن تبقى ضعيفةً وممزّقةً ومفكّكةً، بشكلٍ يسمح لها (إسرائيل) بمدِّ نفوذها الاستراتيجي، وربّما بتوسيع حدودها على حساب جيرانها المتغافلين. إسرائيل من حيث النشأة والدور، كانت (ولا تزال وستبقى) لضمان بقاء قلب المنطقة العربية ومحيطها كلّه مستنزفاً ومعطوباً بشكلٍ يمنعه من النهوض وتحقيق إمكانه الجيوسياسي ضمن موازين القوى العالمية. ليست هذه حسابات إسرائيلية فحسب، بل هي تندرج كذلك ضمن مخطّط استراتيجي للقوى الإمبريالية الغربية، معروف تاريخه وتفاصيله، وتؤكّده وقائع الحاضر. أمّا الخادعون لأنفسهم عربياً بإمكانية السلام مع هذا المشروع السرطاني النشط والشرس والعدواني في المنطقة، عبر الدوْس على فلسطين وقضيتها وشعبها، انطلاقاً من مقولةٍ ثبت تهافتها استراتيجياً "نحن أوّلاً"، فهم أمام لحظة فارقة اليوم، لا تتعلّق بأمن أغلبهم ومصالحهم فحسب، بل يطاول التهديد وجودهم كذلك.
ما كاد نظام بشّار الأسد في سورية يسقط في 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024، حتى سارعت إسرائيل إلى تدمير غالب مستودعات أسلحة الجيش السوري، كما وسّعت نطاق المناطق التي تحتلّها في جبل الشيخ وجنوب سورية. ومنذ ذلك الحين، تتوغّل إسرائيل في مزيد من الأراضي السورية، وتشنّ مزيداً من الغارات الجوّية التي لم تستثنِ العاصمة دمشق. عبثاً حاول الحُكم الجديد في سورية إرسال رسائل تطمين إلى تلّ أبيب، وعبثاً حاول التغاضي عن حقيقة اعتداءاتها، ولكن تجاهل وجود السرطان في الجسم لا يعني وقف فتكه وتمدّده فيه. لقد سقطت مقولات بعض المتفذلكين الناصحين للحُكم الجديد في دمشق، والداعين إياه إلى التركيز على سورية، وغضّ النظر عن ما تفعله إسرائيل فيها، بل وحتى محاولة استرضائها. ومع ذلك، لا يزال بعضهم يصرّ على التمسّك بالزّعم الممجوج نفسه، إسرائيل مشكلة فلسطينية، وهذا ليس من شأننا. حسناً، وصل الأمر إلى أن يصدر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه يسرائيل كاتس تعليمات لجيشهما بحماية دروز ضاحية جرمانا جنوب دمشق، وبضرب القوات السورية إذا دخلت إليها. ولا يتوقّف الأمر عند ذلك الحدّ، فها هما نتنياهو وكاتس يعلنان منطقةً محظورةً على الجيش السوري في عمق سورية نفسها. "ليس مسموحاً لقوات هيئة تحرير الشام، أو الجيش السوري بدخول الأراضي السورية الواقعة جنوب دمشق.. وإسرائيل لن تتوانى عن حماية دروز السويداء من أيّ تهديد"، هكذا قال نتنياهو. أمّا كاتس، فأضاف إلى تهديدات نتنياهو أن من غير المسموح بـ"تموضع أيّ قوة تهدد أمن إسرائيل في المنطقة الممتدّة من هنا (المنطقة العازلة جنوبي سورية) حتى طريق السويداء دمشق، والجيش سيتحرّك ضدّ أيّ تهديد محتمل". تتضافر هذه التهديدات مع تلميحات إسرائيلية أخرى بحماية العلويين في منطقة الساحل السوري. بمعنى آخر، تفكيك سورية على أسس جغرافية ومناطقية وطائفية. ومع ذلك، هناك من لا يزال يثرثر: إسرائيل ليست مشكلتنا (!).
لكنّ التهديد الإسرائيلي لأمن أراضي سورية وسلامتها ووحدتها لا يتوقّف عند ذلك الحدّ. ثمّة تقارير متواترة وذات صدقية حول تحرّكات إسرائيلية لدعم الأكراد الانفصاليين في شمال شرقي سورية. ليست هذه التحرّكات موجّهة ضدّ دمشق فحسب، بل ضدّ تركيا أيضاً. وكان تقرير إسرائيلي نُشر في صحيفة جيروزاليم بوست في يناير/ كانون الثاني الماضي (2024)، ذكر أن "التحالف السوري التركي" قد يتطوّر إلى تهديد يفوق خطر إيران. وأوصى بالاستعداد لمواجهةٍ مباشرةٍ مع تركيا، التي لديها "طموحات لاستعادة نفوذها العثماني". وكانت صحيفة يديعوت أحرونوت قد نشرت خبراً مطلع الشهر الحالي (مارس/ آذار)، ذكرت فيه إن نتنياهو أرسل سكرتيره العسكري إلى موسكو لبحث ضمان بقاء روسيا في سورية على حساب تركيا. قبل ذلك، نقلت وكالة رويترز عن مصادر أميركية وإسرائيلية إن تلّ أبيب تضغط على واشنطن من أجل بقاء سورية ضعيفةً ومفكّكةً ومن دون سلطة مركزية قوية، بما في ذلك السماح لروسيا بالاحتفاظ بقواعدها العسكرية لمواجهة ما سمّته النفوذ التركي المتزايد في البلاد. وحسب تقرير "رويترز"، نقلت إسرائيل وجهة نظرها بشأن سورية إلى كبار المسؤولين الأميركيين خلال اجتماعات في واشنطن في الشهر الماضي (فبراير/ شباط)، وفي اجتماعات لاحقة في إسرائيل مع ممثّلين عن الكونغرس الأميركي.
حتى مصر والأردن، الموقّعتان اتفاقيتَي سلام مع إسرائيل، لم يسلما من غدرها وتآمرها، فلا الأمن القومي حُفظ مصرياً، ولا "أوهام الوطن البديل دُفنت" أردنياً. لم تكتفِ واشنطن وتلّ أبيب برفض خطّة إعادة إعمار قطاع غزّة من دون تهجير سكّانه، كما اتفق العرب في قمّتهم في القاهرة قبل بضعة أيام، بل لا تزال الضغوط على كلّ من الأردن ومصر مستمرّة لاستقبال مئات الآلاف من الفلسطينيين وتوطينهم في أراضيهما. وكان لافتاً ذلك الهجوم الذي شنّه وزير الخارجية الإسرائيلي الأسبق، وزعيم حزب "إسرائيل بيتنا" (المتطرّف)، أفيغدور ليبرمان، على مصر، قبل أيّام قليلة، مطالباً إيّاها بفتح معبر رفح، والسماح لسكّان غزّة بالعبور إلى أراضيها، واستيعاب غالبيتهم في سيناء، على أساس أن ذلك يمثّل حلّاً عملياً وفعّالاً لن يستلزم هجرة ملايين الغزّيين عبر مسافاتٍ طويلةٍ تحقيقاً لمقترح الرئيس الأميركي دونالد ترامب. أمّا إذا رفضت القاهرة ذلك، فالحلّ، حسب ليبرمان، سهل، إذ إن بقاء النظام المصري من دون المساعدات الأميركية مشكوك فيه. وقال: "مصر تلجأ إلينا عندما تواجه انتقادات ودعوات في الكونغرس لتقليص المساعدات بسبب حقوق الإنسان"، زاعماً أنه لا يمكن أن تستمرّ العلاقة بين إسرائيل ومصر من جانب واحد. ينطبق الأمر نفسه على دول خليجية أقامت علاقات مع إسرائيل أو طامحة إلى ذلك، إذ إنها مطالبةٌ بإعادة بناء قطاع غزّة بعد تهجير سكّانه، ليكون "ريفييرا الشرق الأوسط"، فينعم ترامب ونتنياهو بسواحلها الجميلة وشمسها الساطعة، في حين يمارسون هم (بعض الدول الخليجية) دور النادل.
إذاً، موضوع أن إسرائيل تشكّل تهديداً مركزياً ووجودياً للمنطقة ككّل ليس محلَّ جدال، إلا لمن كان يصرّ على التعامي عن الحقائق. من إيران إلى العراق إلى تركيا إلى سورية إلى الأردن إلى السعودية إلى مصر إلى السودان إلى ليبيا إلى تونس... الكلّ في مرمى النيران الإسرائيلية. هذه الحقيقة التي يعلمها الجميع، ويظنّ بعضُهم أنه بجحدها فإنهم في مأمن منها. ومن ثمَّ، أيّ شعار يستلهم "نحن أوّلاً" لن تكون له قيمة استراتيجية، إذا ما استثنى إسرائيل بما هي أحد أهمّ وأخطر أنواع التهديد الوجودي للذات الوطنية، كما القومية، كما الإسلامية.
العربي الجديد