خاص موقع النشرة
على الرغم من أنّ الخروقات الإسرائيلية لاتفاق وقف إطلاق النار لم تتوقف منذ تشرين الثاني الماضي، ولو ليوم واحد، مع تفاوت في كثافتها بين فترة وأخرى، يمكن القول إنّها بلغت "ذروة" جديدة، ليس بالضرورة من حيث المستوى، أو الوتيرة، ولكن بالحدّ الأدنى من حيث نوعيّة الاستهداف، وقبل ذلك الوسائل المُستخدَمة، ولعلّ "أخطرها" كان إنذارات الإخلاء التي صدرت الخميس، وأعادت أجواء الحرب والنزوح إلى الجنوب، كما في أيام الحرب.
فتمامًا كما كان يفعل خلال حرب العام الماضي، عمد المتحدّث باسم الجيش الإسرائيلي أفيخاي أدرعي إلى "استفزاز" اللبنانيين بسلسلة من التغريدات، المرفقة بالخرائط، لمطالبة سكان جنوب لبنان بالإخلاء الفوري، بناء على مزاعم حول وجود مقار أو بنى تحتية لـ"حزب الله"، في استراتيجية يبدو واضحًا أنّها جزء من حرب نفسية متكاملة، تواصل إسرائيل إدارتها، لتقول من خلالها للبنانيين إنّها من يملك زمام المبادرة ويحدّد إيقاع الميدان والسياسة على حدّ سواء.
وتكمن خطورة هذه الجولة من التصعيد أيضًا في توقيتها "الحسّاس"، إذ يتزامن مع بدء العدّ العكسي للذكرى السنوية الأولى لاغتيال الأمين العام السابق لـ"حزب الله" السيد حسن نصر الله، والتي أعلن الحزب بدء التحضيرات لها، كما أنه يأتي أيضًا بعد أيام من قمة الدوحة وما حملته من رسائل رفض للهيمنة الإسرائيلية، فإذا بتل أبيب تتجاهل هذه الرسائل، فتكثّف العمل على كل الجبهات، حتى إنّها لا تتوانى عن تهديد قطر نفسها بمزيد من الضربات.
في هذا السياق، تبدو تل أبيب وكأنها تسعى لإرسال إشارات مركبة: فمن جهة تذكير الحزب بأنها قادرة على ملاحقته عسكريًا ونفسيًا حتى في أكثر اللحظات رمزية بالنسبة له، ومن جهة أخرى إظهار تحدٍّ مباشر لأي مواقف أو قرارات إقليمية أو دولية تسعى إلى لجم اندفاعتها. فكيف تُقرَأ هذه الإشارات والرسائل في السياق الأعمّ، وهل يمهّد التصعيد الإسرائيلي المستجدّ لمواجهة شاملة جديدة، أو جولة ثانية من القتال المباشر في المرحلة المقبلة؟.
في المبدأ، يمكن قراءة التصعيد الإسرائيلي المستجدّ إذًا من أكثر من زاوية، أولاً كجزء من "معركة رمزية" تحاول تل أبيب أن تستبق من خلالها ذكرى اغتيال السيد نصر الله، فهي تريد القول إن الحزب، الذي يستعد لإحياء ذكرى قائده التاريخي الأعظم، إن صحّ التعبير، ليس في موقع قوة أو سيطرة، بل تحت ضغط مباشر يطاول مناطقه وجمهوره، بدليل حالة الاستنفار الذي أصابته بنتيجة التهديدات بالقصف والإخلاء.
ولعلّ الرسالة هنا مزدوجة: ضرب الثقة داخل البيئة الحاضنة عبر إظهار هشاشتها أمام الضغوط، والتأكيد في الوقت نفسه على أن "إرث نصر الله" لا يمنح الحزب حصانة سياسية أو ميدانية، علمًا أنّ الحزب لا يزال منذ اغتيال السيد نصر الله يعيش مرحلة انتقالية حساسة، انتقل فيها من قيادة تاريخية ذات حضور كاريزمي إلى إدارة جماعية يقودها الأمين العام الحالي الشيخ نعيم قاسم.
ورغم نجاح الحزب في تثبيت بنيته الداخلية واحتواء الارتباك، تبقى ذكرى الاغتيال الأولى محمّلة بدلالات سياسية ورمزية كبيرة، سواء داخل بيئته أو على مستوى المواجهة مع إسرائيل. وهنا، قد ينطوي التوقيت أيضًا على رغبة إسرائيلية مضمرة في التشويش على المناسبة ومنع الحزب من تحويلها إلى منصة تعبئة أو استعراض قوة، وسط تكهّنات كثيرة ومتزايدة، وربما غير بريئة، باحتمال تجدّد النزاع الشامل في الأيام المقبلة.
لكن، بالتوازي مع هذا البعد، وعلى أهميته، لا يمكن فصل هذا التصعيد عن نتائج قمة الدوحة الأخيرة، التي خرجت بمواقف واضحة ضد سياسة التوسّع الإسرائيلية، خصوصًا بعد العدوان على دولة قطر، وعبّرت عن دعم سياسي وإعلامي للمقاومة. ورغم أن إسرائيل تدرك محدودية تأثير هذه المواقف عمليًا، فإنها أرادت أن ترسل إشارة واضحة بأنها لا تكترث لأي غطاء عربي أو إسلامي، وأنها ماضية في فرض أجندتها العسكرية بلا حسابات.
وهكذا، يرى العارفون أنّ الإنذارات التي أطلقتها تل أبيب في الجنوب كانت بمثابة ترجمة ميدانية لهذا التحدي بصورة أو بأخرى، ولا سيما أنّها جاءت متزامنة مع تكثيف لوتيرة القصف ليس في جنوب لبنان فحسب، ولكن أيضًا في سوريا واليمن فضلاً عن غزة، التي أطلقت فيها إسرائيل عمليّة عسكرية جديدة، وكأنها تقول: بينما أنتم تصدرون بيانات الدعم في الدوحة، نحن على الأرض نفرض قواعد الاشتباك التي تريد.
وفقًا للعارفين، إنها لغة الوقائع الميدانية التي تريد إسرائيل أن تجعلها مرجعية أساسية، بدل أي بيانات أو قرارات سياسية. وقد يكون الأهم أن هذا التحدي يعكس توجهًا استراتيجيًا في التفكير الإسرائيلي: استثمار "فائض القوة" في ظل غياب رادع دولي حقيقي. فالمجتمع الدولي لا يحرّك ساكنًا حتى أمام هول المجازر المرتبكة في غزة، حيث تتواصل الإبادة ليلاً نهارًا، والولايات المتحدة تكتفي بمناشدات فضفاضة، بينما يبقى لبنان الحلقة الأضعف.
هكذا تتحرك إسرائيل بحرية، لتؤكد أن لا توازنات إقليمية أو توافقات عربية قادرة على كبحها، وهو ما يطرح السؤال عمّا إذا كان الهدف فقط تكريس "حرية الحركة" التي شرعتها لنفسها بعد الحرب الأخيرة، أم أننا أمام مواجهة شاملة جديدة، ولو أن المؤشرات تدلّ حتى الآن أنّ الطرفين لا يريدانها، فـ"حزب الله" لم يستعد بعد توازنه بالكامل، كما تشير بعض الأوساط، في ظل الضغوط التي يتعرض لها، وإسرائيل تحقّق ما تريده بلا كلفة حربية.
في النتيجة، يمكن القول إنّ التصعيد الإسرائيلي هذا الأسبوع لم يكن مجرد تصعيد ميداني عابر، بل خطوة استراتيجية محمّلة بالرسائل الرمزية والسياسية. فمن الإنذارات التي أعادت أجواء الحرب والنزوح، إلى التوقيت المرتبط بالذكرى الأولى لاغتيال نصر الله وما تحمله من دلالات، مرورًا برسائل التحدي بعد قمة الدوحة، أرادت تل أبيب أن ترسم معادلة مفادها أنها اللاعب الوحيد القادر على التحكم بمسار الأحداث في لبنان.
بالنسبة للبنان، تبقى الصورة معقدة: بيئة داخلية مرهقة، حزب الله في اختبار وجودي أمام جمهوره، ودولة عاجزة عن لجم التصعيد أو حماية المدنيين. في ظل هذه المعطيات، يبدو أن البلاد تتجه نحو مرحلة أكثر ضبابية، حيث تختلط الرمزية بالواقعية، والحرب النفسية بالميدان المفتوح، ليبقى السؤال معلقًا: هل تنجح إسرائيل في فرض معادلاتها الجديدة، أم أن الحزب سيجد اللحظة المناسبة لقلب الطاولة؟.