ترامب ينهك أميركا من حيث أراد تقويتها _


رفيق عبد السلام

عاد ترامب إلى البيت الأبيض معبّأً هذه المرّة باندفاع أيديولوجي مصحوب برغبة كبيرة في الانتقام من خصومه وتأديب حلفائه على السواء. بدأ رحلته الجديدة من البيت الأبيض بالانسحاب من منظّمة الصحّة العالمية ومن اتفاقية باريس للمناخ، وعاود توجيه سهامه إلى الجارة الشمالية كندا، التي سخر منها ويريد أن يحوّلها الولاية رقم 51، ثمّ المكسيك، التي بدأ بالاستحواذ الرمزي على خليجها بتسميته الخليج الأميركي قبل الاستحواذ الفعلي، وأعاد تأكيد عزمه على وضع يده على مضيق بنما، وجزيرة غرينلاند، التي يسيل لعابه للاستحواذ على مساحتها القارّية المتجمّدة، وافتكاكها من الدنمارك طوعاً أو كرهاً، هذا من دون أن نتحدّث عن الحروب التجارية الباردة، التي بدأ خوضها بزيادة الضريبة ضدّ كندا والمكسيك والصين والاتحاد الأوروبي، والبقية في الطريق.

أما نصيب منطقتنا من أجندة ترامب الطويلة، فالواضح أنها ستكون الأكثر ثقلاً وكلفةً، فخلال زيارة رئيس حكومة دولة الاحتلال بنيامين نتنياهو للبيت الأبيض أخذ من ترامب ما يطلب وزيادة، إذ لم يُخفِ ترامب تصميمه على تهجير أهالي غزّة إلى مصر والأردن، وتملّك أراضي القطاع وتحويله منتجعاً سياحياً ومشروعاً استثمارياً على ضفاف المتوسّط، بتمويل عربي، ولكن تحت تصرّف العقاري الكبير وصهره جاريد كوشنر، وقبل ذلك تسليم الضفة الغربية لنتنياهو، بعدما أهداه القدس والجولان في عهدته السابقة، ولم يوارِ رغبته في الاستيلاء على أموال النفط العربي رغبة ورهبة، لملء الخزينة الأميركية التي تعاني شحّاً كبيراً، وقد تحدّث عن 500 مليار دولار من السعودية، ثمّ عاد ورفع الرقم إلى ألف مليار دولار، على اعتبار "كثرة أموالهم"، بحسب تعبيره، إلى شنّ الحروب المباشرة أو بالوكالة، ولا يُستبعَد في هذا السياق، وبدفع من الإسرائيليين، أن يتورّط ترامب في مغامرة عسكرية ضدّ إيران، بزعم نزع سلاحها النووي، كما بات من الواضح أنه يريد اقتطاع أراضٍ عربية أخرى لصالح إسرائيل، التي شبّهها بقلمه الصغير مقارنةً بمكتبه الكبير، كناية عن الشرق الأوسط.

والراجح هنا أن المنطقة الوحيدة التي يستطيع ترامب أن يُقبل فيها على مغامرات عسكرية ونهب أموال من دون كلفة كبيرة هي الشرق الأوسط، المجزّأ والمبعثر، فلن يستطيع المجازفة مع الصين أو الهند أو روسيا أو غيرها. صحيح أن ترامب لا يرغب في شنّ حروب مكلفة مادّياً وبشرياً، ولكنّه يريد أن ينتزع أكثر ما يمكن من المكاسب الجيوستراتيجية والاقتصادية، من دون أن يحرّك جيوشه وطائراته وصواريخه، ولكن بتأثير اللوبيات الصهيونية واليمينية من حوله، وباندفاعه الغريزي للتوسّع الإمبراطوري، لا يُستبعَد إقدامه على حروب خاطفة وسريعة في المنطقة.

بات الكلّ يتحسّس رأسه خشية الإصابة بحجارة ترامب الطائشة، بعدما خُيّل للجميع أنهم قد وضعوا حقبة ترامب خلف ظهورهم. فالرجل لن يتردّد في استعادة التراث الإمبراطوري للقرن التاسع عشر، القائم على التوسّع في البحار واليابسة وإعادة رسم الخرائط ونهب الثروات وتهجير الشعوب.

المؤكّد هنا أن هذه العواصف الهوجاء، التي يحرّكها ساكن البيت الأبيض في المواقع والاتجاهات كلّها، ستلحق أذىً ومتاعبَ كثيرة بخصوم أميركا، وحتى حلفائها، ولكنّها ستولّد في الوقت ذاته متاعبَ أشدّ، وكلفة أعلى، لأميركا ولرئيسها المنفلت من عقاله، ذلك أن قوانين السياسة تسري على الجميع ولا تحابي أحداً، ومن لا يراعي موازين القوى، ويتصرّف بدوافع الغريزة والانتقام، أو الغرور والصلف، ومن دون رويّة، سيدفع ثمناً آجلاً أم عاجلاً.

في الداخل، سيجد ترامب نفسه في مواجهة طيف واسع من القوى والتيّارات، من الليبراليين النافذين في الإدارة والمجتمع، والقوى اليسارية والنقابات، والمثقّفين والأكاديميين والطلاب، إلى التيّار النسوي والشواذ والمدافعين عن البيئة والأقلّيات وغيرها، لا سيّما أن هذه القوى قد نالها (وسينالها) قليل أو كثير من سهام ترامب السائبة، ومن ثمّ ستضطر للدفاع عن نفسها وحماية مصالحها الفئوية والجمعية، قبل أن نتحدّث هنا عن اعتبارات الأيديولوجيا والفكر، في مناهضة تيّار شعبوي جامح. فالولايات المتحدة، ومهما كانت أخلاقها، تظلّ في نهاية المطاف ذات تقاليد ليبرالية ومؤسّساتية ضاربة الجذور، وليس من اليسير نسف هذا الميراث كلّه بجرّة قلم ترامبية، ولقد لفت هذا الأمر نظر المفكّر والمؤرّخ الفرنسي ألكسيس دي توكفيل، منذ القرن التاسع عشر، وهو الذي عاصر الثورة الفرنسية، واستقرّ بعض الوقت في أميركا، مبيّناً أن ما ميّز أميركا مقارنةً ببلدان أوروبا، هو رسوخ ما سمّاه بـ"الأخلاق المدنية" و"قوة مجتمعها المدني". هذا ما يرجّح أن يجد ترامب نفسه محاصراً بحزام ناريٍّ واسع النطاق في الداخل الأميركي، قد يصل الأمر إلى حدّ تشكيل تحالف واسع ضدّه، يضعف سيطرته على المشهد السياسي، والمسألة مسألة وقت لا غير، وكلّ ما سيفعله ترامب هو تعميق الاستقطاب السياسي والأيديولوجي الأميركي، بما يوهن نظامها الليبرالي، ويضعف قوّة أميركا التنافسية. ذلك أن المنظومة الديمقراطية، ومهما كانت قوّتها، تفقد فاعليتها في أجواء الصراعات والاستقطابات الداخلية، وغياب ما سمّاه أبو الفلسفة الليبرالية الأميركية جون رولز بالوفاقات المتدخّلة والمركّبة.

وعلى المستوى الخارجي، ستكون جبهات ترامب أكثر سخونةً وأشدّ ضراوةً، وإذا استثنينا روسيا التي يدفع ترامب (لاعتبارات براغماتية) باتجاه صفقة تاريخية معها، تخلّصه من عبء أوكرانيا، ومعها فولوديمير زيلينسكي، الذي لا يُحبّه، فإنه سيشتبك مع الصينيين والأوروبيين والكنديين والهنود والإيرانيين، ومع جنوب أفريقيا، ومع كثير من دول أميركا الجنوبية والاتحاد الأوروبي، وحلف شمال الأطلسي، والأمم المتحدة، ومجموعة بريكس، والمنظمات الحقوقية الدولية، وغيرها كثير، ولن تخرج واشنطن، في دوامة هذه الصراعات الداخلية والخارجية، من دون كدمات وندوبٍ كثيرة.

الواضح أن ترامب سيخوض معارك لا حصر لها في الداخل والخارج، مدفوعاً بمُوجِّهات المجد الشخصي والعظمة الإمبراطورية والميراث الاستعماري الأبيض الذي ينهل من معينه، ومن ثمّ، ستجتمع عليه قوىً كثيرةٌ لنزع مخالبه وأنيابه التي يريد أو يؤذي بها الخصوم والحلفاء.

الشعار الرئيس، الذي اختاره ترامب لحملته الانتخابية، واجتذب عبره فئاتٍ كبيرةً من الأميركيين الغاضبين والمحتقنين، "لنجعل أميركا عظيمة مجدّداً"، وإذا كانت السياسة بخواتيمها لا ببداياتها ومقدّماتها، فيجب أن نطرح سؤالاً كيف سيخرج ترامب ومعه أميركا في نهاية دورته؟ وهل ستكون أكثر قوّةً وعظمةً فعلاً؟

ما هو واضح إلى حدّ الآن، وبالنظر إلى هذه المؤشّرات كلّها، التي دشّن بها ترامب مشواره السياسي، أنه سيجعل أميركا أضعف ممّا كانت عليه عند دخوله البيت الأبيض، فاذا أخذنا بالنظريات السياسية التي تقول بحتمية انحدار القوة الأميركية، شأنها في ذلك شأن الإمبراطوريات السابقة من الرومانية والفارسية والعبّاسية والعثمانية، إلى الهولنديين والفرنسيين والإنكليز، فإن ما يفعله ترامب يبدو هنا وكأنه "صوت" التاريخ المنبعث من الأعماق، الذي يجرّ الإمبراطورية الجديدة جرّاً نحو مزيد من التراجع والانحدار، هذا في الوقت الذي يراهن فيه ترامب على جعلها القوة العظمى والفريدة بلا منازع.

المفارقة العجيبة هنا أن لحظة إعلان التفوّق الأميركي المطلق، بعد سقوط الكتلة الشيوعية في تسعينيّات القرن الماضي، كانت بداية الانحدار الأميركي، فقد كانت "إمبراطورية الشرّ" بمثابة قوّة كابحة وضابطة لسلوك واشنطن، بما اضطرها إلى شيء من التواضع، وأخذ مصالح الآخرين بعين الاعتبار، وانتهاج سياسة ما يعرف بالتعاون متعدّد الأطراف مع الحلفاء والشركاء، بيد أن زهو القوة والشعور بالانتصار الساحق بعد نهاية الحرب الباردة قد أوقعها في أخطاء قاتلة، ومغامرات عسكرية نشطة قادها المحافظون الجدّد، أوردت القوة الأميركية مورد التهلكة من حيث أراد المحافظون الجدّد التتويج الاستراتيجي.

عاشت أميركا خلال نصف القرن الأخير ثلاث هزائم من طرف دول وقوى ضعيفة، هزيمة مع فيتنام سنة 1975، وأخرى في أفغانستان باستلام طالبان الحكم في كابول سنة 2021، وثالثة في العراق خلال السنوات الماضية، وقد تكون مرشّحةً لهزيمة رابعة، وغير مباشرة مع الروس في أوكرانيا، وهذا كلّه بسبب كثرة المغامرات العسكرية واندفاعات القوّة بلا تبصّر.

في الخلاصة ليس ترامب إلا عرضاً من أعراض "المرض الإمبراطوري"، وليس فائض غروره وعجرفته إلا تعبير من تعبيرات التأزم، التي تصيب القوى العظمى في حالات ضعفها ووهنها، فيصعب على القادة السياسيين التكيّف مع المتغيّرات الجديدة، وضبط أقوالهم وأفعالهم على قياس أوزانهم الحقيقية لا المتوهّمة.

حاولت أميركا تدارك أخطاء المحافظين الجدد مع صعود أوباما، بإعادة الاعتبار لمفهوم التحالف متعدّد الأطراف، والتخلّي عن عقيدتهم الأمنية "الجديدة" في الضربات الاستباقية، ونقض السيادة، وادعاء الحقّ في التدخّل باسم نشر الحرّية والديمقراطية وما شابه ذلك، إلا أن صعود ترامب مجدّداً سنة 2016، وجلوسه في كرسي البيت الأبيض، قد أضاف لإرث المحافظين الجدد جرعةً جديدةً من الغرور والبلطجة، وهي حالة مرشّحة لمزيد من التعمّق في فاتحة عهدة ترامب الجديدة. ما هو خطير على القوة العظمى قبل غيرها، تحوّلها مصدرَ إرباك وفوضى لنظام دولي، وضعت قواعده وبنت هياكله ومؤسّساته بنفسها، بعد استلام القيادة من الإنكليز إثر نهاية الحرب العالمية الثانية، ثمّ زادت في ترسيخها بعد نهاية الحرب الباردة، وهي هنا كمن يقطع غصن الشجرة الذي يجلس عليه.

نحن نعيش واقعاً دولياً مركّباً ومعقّداً غدت فيه القوة الأميركية لاعباً من بين لاعبين آخرين، وإن كانت اللاعب الأكبر، وما سيفعله ترامب هو التسريع في وتيرة التعدّدية القطبية، وإنهاك القوة الأميركية بمزيد من الصراعات وحروب الاستنزاف الساخنة والباردة.

العربي الجديد
ترامب ينهك أميركا من حيث أراد تقويتها _ رفيق عبد السلام