د. فاتن الدوسري
لم تكن تتوقع إدارة ترامب أن تتحدى الصين التعريفات الجمركية وتدخل بحسم منقطع النظير في تحدى الحرب التجارية الذي وصل إلى قرابة 145% تعريفات متبادلة بين البلدين في آخر تصعيد. إذ اعتقد ترامب أن رفع التعريفة الجمركية على الواردات الصينية إلى هذا المستوى الجنوني في إطار سياسة «الضغط الأقصى»؛ سيجبر الصين على الفور على الدخول في اتفاق تجاري جديد مع واشنطن.
تعد السوق الأمريكية من الأسواق الرئيسية للصين حيث تجني منه قرابة النصف مليار سنويا. فضلا عن ذلك، تشكل الحرب التجارية خطراً على ديناميكية وحركة التجارة العالمية التي تعد الصين أكبر المستفيدين منها باعتبارها أكبر منتج ومصدر للعالم.
ومن ثم، يعكس التحدي الصيني القوي لتعريفات ترامب متغيرات على مستوى التفكير والقوة الصينية، وأيضا على مستوى الواقع العالمي والداخل الأمريكي.
* الصراع الأمريكي الصيني له خصوصية عن باقي صراعات العالم، فهو صراع على الهيمنة العالمية وهو أهم واخطر صراع عالمي بالتأكيد. وبالتالي، فأي صراع جزئي بين القوتين يدور في رحاب صراع الهيمنة، من جانب واشنطن يعد البعد الاستراتيجي الأبعد من الحرب التجارية التي أصبحت سياسة راسخة لا تقتصر على ترامب فقط، هو إضعاف القوة الاقتصادية للصين التي جعلت الصين القطب الثاني عالمياً.
وبعيداً عن أضرار الصين من الحرب التجارية؛ فتحدي الصين الحاسم لها هو رسالة مباشرة للعالم قبل واشنطن بأن الصين أصبحت قوى عالمية قادرة على القيادة وتحدى الهيمنة الأمريكية بل وانتزاع الهيمنة منها. وما أدل على ذلك من التحدي الصيني الحاسم المتصاعد في جميع الخلافات الكثيرة التي تطرأ بصورة متوالية بين الجانبين، وتحديداً في تايوان. قبل عقد مضى لم يكن التحدي الصيني لواشنطن بذلك القوة والحسم، فهو يسير بشكل مطرد.
وهذا الحسم المطرد لا ينبع من فراغ حيث تتسم الصين بالصبر والحكمة، بل نابع من تنام شديد لقوة الصين الشاملة، نظير تراجع للقوة الأمريكية. والواقع أن تلك القوة خاصة الاقتصادية تجعل الصين في مركز قوة رئيسي أمام ترامب، إذ أن اقتصادها الرهيب قادر على الصمود أطول فترة ممكنة في تلك الحرب. نظير ذلك، الاقتصاد الأمريكي الغير قادر-وفقا لإجماع الخبراء- على الصمود طويلاً أمام حرب تعريفات ترامب.
إذ يكفى القول بمستويات التضخم الرهيبة المرتقبة في الولايات المتحدة جراء تلك التعريفات، فالولايات المتحدة تستورد ما يقرب من 70% من احتياجاتها بما في ذلك سلع حساسة كالأغذية والدواء ومستلزمات الإنتاج خاصة من أكثر الدول المستهدفة بالتعريفات وعلى رأسها الصين.
وبفضل قوة الصين الرهيبة عالميا سياسيا واقتصادياً، فهي قادرة على تعويض خسائر السوق الأمريكي عبر زيادة الصادرات مع تخفيض قيمة العملة إلى مستويات أدنى. فالصين حاليا توصف بزعيمة كتلة الجنوب العالمي التي تشهد في المقابل تراجع حاد للنفوذ الأمريكي.
* من منطلق استراتيجي آخر يعكس تطور لافت في التفكير الاستراتيجي للصين؛ ترى الصين أن الحرب التجارية المتهورة لترامب؛ إنما هي فرصة ذهبية للصين لتوسيع نفوذها وقوتها الدولية. فترامب بتلك الحرب يعادي أو يتحدى العالم حتى أقرب حلفائه؛ وهذا بدوره يمنح الصين فرصة لاستيعاب دول العالم حتى الحلفاء إلى فلكها الخاص خاصة الاقتصادي، لا سيما وأن جميع دول العالم باتت تعتمد على الصين اقتصادياً بصورة رئيسية. دول أوروبية كبرى مثل ألمانيا وفرنسا قد ألمحت إلى تعميق شراكات اقتصادية مع الصين، بعدما نجح بايدن في إحداث قدر من النفور في العلاقات الأوروبية الصينية. كما تدور أقاويل عن شراكة اقتصادية شاملة تضم اليابان وكوريا الجنوبية والصين.
** خلاصة القول، في كل أزمة جديدة بين واشنطن وبكين، تبرهن الأخيرة على أنها لم تعد تخاف الهيمنة الأمريكية، بل متحد قوي لها. علاوة على أنها تكون كاشفة بجلاء لتراجع القوة الأمريكية، وتخبط السياسة الأمريكية أيضا خاصة تجاه الصين. ومن ثم، فعلى الأرجح سيضطر ترامب للتراجع في حربه التجارية مع الصين في القريب العاجل-مثلما تراجع في معظم سياساته العامة حتى الآن- ويقبل بإبرام اتفاق مع الصين غالبا سيتضمن تخفيض التعريفة إلى أقصى حد ممكن؛ لاسيما أيضا وأن حربه التجارية المتهورة تواجه بكم واسع من الانتقادات الداخلية الحادة حتى من أقرب داعميه في الحزب الجمهوري بسبب تبعاتها الخطيرة اقتصاديا وسياسيا. فهي ستعزل أمريكا عن العالم، وستخسر بسببه جميع حلفائها.
صحيفة الشرق القطرية