د. عبدالله العمادي
إن تأملت بعض الشيء في قوله تعالى (بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق) ستشعر كأن الحق جسم مادي صلب يُرمى به فيدمغ الباطل. والدمغ في اللغة هو شج الرأس حتى يبلغ الدماغ. أي أن الحق يهوي على الباطل فيشج رأسه ويزيله من الوجود.
هذا التصوير القرآني البديع لمشهد قذف الحق على الباطل، إشارة إلى أن هذا الكون لا يمكن للباطل أن يستقر فيه ويسيطر على مجريات الأمور. نعم، الباطل قد يكون له زمنه، يعلو فيه ويسيطر ويفجر في الأرض، لكن أمده قصير مهما طال، فهذا هو ناموس إلهي في هذا الكون.
وهذا الناموس الإلهي هو الذي يصنع يقيناً راسخاً في قلوب وأفئدة المؤمنين بنصر الله، بحيث «لا يخالجهم الشك في صدق وعده؛ وفي أصالة الحق في بناء الوجود ونظامه؛ وفي نصرة الحق الذي يقذف به على الباطل فيدمغه – كما جاء في ظلال القرآن - فإذا ابتلاهم الله بغلبة الباطل حيناً من الدهر عرفوا أنها الفتنة؛ وأدركوا أنه الابتلاء؛ وأحسوا أن ربهم يربيهم، لأن فيهم ضعفاً أو نقصاً؛ وهو يريد أن يعدهم لاستقبال الحق المنتصر، وأن يجعلهم ستار القدرة، فيدعهم يجتازون فترة البلاء يستكملون فيها النقص ويعالجون فيها الضعف. وكلما سارعوا إلى العلاج، قصّر الله عليهم فترة الابتلاء، وحقق على أيديهم ما يشاء. أما العاقبة فهي مقررة (بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق).
الصهيونية باطل ينتظر الدمغ
خير مثال على الباطل مدار حديثنا، هو المشروع الصهيوني الذي رعته وقامت عليه بريطانيا قبل قرن من الزمان. فإن كانت الصهيونية تعملقت وفجرت في الأرض بدعم الشرق والغرب لها طوال قرن من الزمان، فقد حان الآن موعد زوالها، ففي هذا الكون - كما أسلفنا - لا يُسمح للباطل أن يصول ويجول كيفما شاء، فإن (لكل أجل كتاب) وقد حان أجل الصهيونية.
طوفان الأقصى وتوابعه هو نموذج للحق الذي قذفه الله على الباطل الصهيوني بكافة تفاصيله وشخوصه ورموزه ومخططاته وأحلامه. فلقد جاء هذا الطوفان على أم رأس الصهاينة كجلمود صخر حطه السيل من علِ.
جاء الطوفان، على رغم ما أثاره الكثيرون حوله من أكاذيب ومزاعم، وما حاول كثيرون آخرون من وقف تقدمه وكبح جماحه، جاء بقدرة قادر لأجل مهمة دمغ المشروع الصهيوني الباطل، ليُكتب على يديه نهاية هذا المشروع الشيطاني الذي اقتربت نهايته بإذن الله، وهذا ليس من منظورنا نحن المؤمنين بنصر الله، ولكن أيضاً من منظورهم هم أنفسهم، الصهاينة ومن يدعمهم.
ها هو أحدهم وهو المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيه في مقال له نشره قبل أقل من عام، يشبّه طوفان الأقصى بزلزال ضرب مبنى قديم فتصدع وتشققت جدرانه، حتى صار آيلاً للسقوط في أي وقت. فقال في ختام مقاله: «سواء رحب الناس بالفكرة أو خالفوها، فإن انهيار إسرائيل أصبح أمراً متوقعاً، وينبغي لهذا الاحتمال أن يوجه نحو حوار طويل حول مستقبل المنطقة».
ويضيف قائلاً: «سوف يُفرض على جدول الأعمال عندما يدرك الناس، أن المحاولة التي دامت أكثر من قرن من الزمان بقيادة بريطانيا ثم الولايات المتحدة لفرض دولة يهودية مكان دولة عربية، تقترب ببطء من نهايتها. وسيتعين على المستوطنين الاستعداد للعيش كمواطنين متساوين في فلسطين المحررة والمتحررة من الاستعمار».
الصهيونية على درب الشيوعية
إن أقرب مثال أستحضره دوماً في مقالاتي للاستشهاد به حين الحديث عن الباطل، وأن هذا الباطل لا يدوم مهما طال عمره، هو المشروع الشيوعي الذي رعته دولة كانت عظمى هي الاتحاد السوفيتي منذ بدايات القرن العشرين. فقد تم تأسيس (بنيانه على جرف هار فانهار به في نار جهنم) ولم يكن ذلك المشروع إلى العدالة أو المنطق البشري ينتمي، بل متصادم مع الفطرة ومع إرادة الله في أرضه وخلقه، وما بُني على باطل فهو باطل.
ما عاش المشروع ولا الدولة الراعية، بل انهارت تلكم الدولة في غضون سبعين عاماً، وتفتتت الجمهورية السوفيتية، أحد القطبين المتحكمين في العالم طوال ذاك القرن إلى خمس عشرة دولة. فقد أرسل الله إلى ذلك الباطل، الحق الذي تمثل في الجهاد الأفغاني، كي يدمغ الشر الشيوعي ويشج أم رأسه، فكان سبباً في انهيار ذلك الباطل. والصهيونية دون أدنى ريب، تسير على خطى الشيوعية في مسألة التأسيس وكذلك الزوال، الذي بات أقرب مما مضى.
اليوم وقد أرسل الله الحق الفلسطيني في السابع من أكتوبر 2023 لأجل أن يدمغ باطل الصهيونية، ويشج رأس كل داعميه، حتى وإن بدا للعالم ظاهرياً غير ذلك، إلا أن الطوفان إشارة إلى أن الناموس الإلهي لا يقبل غلبة الباطل، بل الحق فقط. أما الباطل فعليه أن يزهق ويزول، عاجلاً أم آجلا.
الجانب الخفي، أو الذي يُراد له أن يكون مخفياً، من كل ما جرى منذ أحداث السابع من أكتوبر قبل عام ونصف العام، هو ذلكم التصدع الذي أصاب كيان الاحتلال بصورة ليس لها مثيل، حتى صار العدو نفسه يعترف به، وإن كنت أعجب من بعض بني جلدتنا من لا يزال يحاول دعم هذا الباطل بكل صورة ممكنة، وبشكل ممجوج سخيف.
لكن رغم كل محاولات الشرق والغرب في إنقاذ المشروع الصهيوني، إلا أن وعد الله قائم يمنع الباطل أن يطول أجله. ولقد حان أجل هذا المشروع الباطل عما قريب، بل ربما بزواله تزول قوى وأنظمة أخرى فعلت المستحيل لإبقاء جذوة الصهيونية مشتعلة بالمنطقة، لكن الحق أحق أن يُتّبع (وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون).