الخليج يتقدّم وأميركا تتغيّر _ محمود الريماوي


محمود الريماوي

أظهرت زيارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى السعودية وقطر والإمارات، وانعقاد قمّة خليجية أميركية في الرياض، أن الإدارة الحالية في واشنطن تولي اعتباراً كبيراً لمنطقة الخليج وقادتها وشعوبها، وتضع هذه المنطقة في موقع متقدّم في معادلاتها الاستراتيجية، وعلى نحوٍ يفوق ما كان عليه الأمر خلال عقود مع الإدارات الأميركية المتعاقبة. ومكمن التغيير هنا أن دول الخليج العربي لم تعد منتجاً للطاقة فحسب، بعدما طوّرت اقتصاداتها، وبات دخلها القومي يتغذّى من مصادر غير نفطية. كما لم تعد هذه الدول (نسبياً) بحاجةٍ إلى مظلّة دولية خارجية لحمايتها وصدّ التهديدات التي قد تتعرّض لها، بعدما نوّعت في علاقاتها مع المراكز الدولية، وشقّت طريقها نحو بناء صناعة دفاعية. كما أثبتت التطوّرات المتسارعة أن حاجة الولايات المتحدة إلى دول الخليج لا تقلّ عن حاجة هذه الدول إلى واشنطن، وهو ما يظهره حجم الاستثمارات الخليجية الهائلة والمشتريات عالية القيمة التي يجري التعاقد عليها.

وإلى ذلك، تلعب دول الخليج دوراً محورياً في جهود إطفاء الأزمات الإقليمية، فقد أسهمت هذه الدول عبر الحوار والتعاون مع طهران في الحدّ من المطامح الإيرانية المفرطة، وكذلك في الحدّ من النزعة العدوانية التوسّعية الإسرائيلية، عبر تقديم الدعم والإسناد للبنان وسورية، ومن خلال الجهود التي بُذلت بالتعاون مع تركيا لرفع العقوبات الأميركية عن سورية، والتمسّك بمطلب وقف الحرب على غزّة، حتى بات ترامب ينعت هذه الحرب بـ"الغبية والوحشية"، ورغم أن الرئيس الأميركي يتمسّك بـ"حلمه" بتوسيع الاتفاقات الإبراهيمية، إلا أن الإدارة الحالية لم تعد تربط إبرام الاتفاقات وأوجه التعاون مع الرياض (وغيرها) بالسير نحو التطبيع مع تلّ أبيب، وذلك تماشياً مع شعار "أميركا أولاً". ومع توقّف إدارة ترامب عن الحرب في اليمن مع الحوثيين، والتفاوض بنشاط مع إيران، مهّد لهما جهد خليجي متعدّد الأطراف، فإن مخاوف المواجهات المدمّرة في تخوم الخليج باتت تتراجع إلى حدّ بعيد، وهناك شخص وحيد في تل أبيب لا يكتم هوسه بالحروب إلى النهاية. ولا يغيب عن البال الجهد السعودي الملحوظ في وقف الحرب بين الهند وباكستان الذي جرى تتويجه بتدخّل دبلوماسي أميركي بين البلدَين.

أثبتت التطوّرات المتسارعة أن حاجة الولايات المتحدة إلى دول الخليج لا تقلّ عن حاجة هذه الدول إلى واشنطن

واقع الحال أنّ شرق أوسط مختلفاً ترتسم ملامحه الأولى، ومن أوضح مظاهره التعاون الأميركي الخليجي المتنامي، القائم على الشراكة والحاجة إلى إحلال السلام والأمن في المنطقة كما في العالم بأسره، بعيداً عن استعراضات القوة الغاشمة، وعن مفاهيم بالية تُنكِر سيادة الدول وحقوق شعوبها، أو تصنّفها كبيرة أو صغيرة، قوية أو ضعيفة، وأنه ممّا يسترعي الانتباه أنه بينما كانت أنظار العالم تتجه إلى العواصم الخليجية التي زارها ترامب، وما تُحفّ بهذه الزيارة من آمال، وبينما كانت الدوحة تواصل بغير كلل جهودها مع الوسيطَين الأميركي والمصري، وتستضيف مباحثات تفاوضية شديدة الأهمية لوقف الحرب الوحشية على غزّة، فقد كانت حكومة نتنياهو في الأثناء تواصل حربها على المدنيين المنكوبين هناك، وتستهدف ما تبقّى من أجنحة مستشفيات، في سلوك مُخزٍ، كما وصفه الرئيس الفرنسي مانويل ماكرون، وتُصدر مُجدّداً أوامر إخلاء، وبما يشي بمزيد من الضيق الإسرائيلي بالسياسة الجديدة التي بات ينتهجها ترامب وأركان إدارته، الرامية إلى وقف الحرب وحرمان المهووسين والمدمنين على القتل من إدامة هذه الحرب، وبما يُؤذِن ببدء رفع الغطاء السياسي والدبلوماسي عن هؤلاء. وقد حرص ترامب خلال جولته على الظهور بمظهر من يقف في منطقة وسطى مراعياً، كما يبدو، نفوذ اللوبي الإسرائيلي على مؤسّسات بلاده، وكان من اللافت أنه تمنّى لأهل غزّة واقعاً أفضل، من غير أن يحدّد رؤيته لمستقبلهم، غير أنه سمع غالبيّةً خليجيّةً تدافع عن حقّ هؤلاء في بناء حياة كريمة آمنة في أرضهم، مع الاستعداد للإسهام في إعادة إعمار القطاع وفقاً للخطّة المصرية العربية، والإجماع دولي بهذا الشأن.

تماسك الكتلة الخليجية قد أسهم في الحفاظ على حدّ أدنى من التماسك العربي

مثير للاهتمام أن الكتلة الخليجية باتت تمتلك موقعاً متقدّماً في المعادلات الاستراتيجية لعالمنا، وتعرف واشنطن أن العواصم الخليجية أصبحت تقيم علاقةً تشاركيةً مع الصين، فضلاً عن علاقات متنامية مع سائر المراكز الدولية، إضافة إلى وزنٍ متزايد داخل العالم العربي والإسلامي، بما يزيل الصورة القديمة للخليجي زبون السلاح الدائم، وبائع النفط والغاز، رغم أن هذه الدول لم تتوقّف عن شراء الأسلحة الأميركية المتقدّمة، غير أنها تولي أنظارها نحو مصادر أخرى للتسلّح، أوروبية وصينية وتركية، أمّا الاستثمارات الخليجية الكبيرة في الولايات المتحدة، فهي من قبيل الاستثمار في أقوى اقتصاد عالمي، وبما يحقّق منافع متبادلة، وعلاقاتٍ قائمةً على الاحترام المتبادل، ومراعاة تطلّعات دول المنطقة وشعوبها إلى إحلال سلام جدّي واستقرار يتّسم بالتنمية والازدهار، لا بالجمود والتوجّس من المعلوم والمجهول. وقد أحسن قادة دول الخليج في التقاطهم رؤية ترامب السلمية لمشكلات المنطقة والعالم، إذ دعوا واشنطن إلى السير بثبات في هذا الطريق لتحقيق النتائج المنشودة والممكنة، متى ما ألقت واشنطن بثقلها مع خيار السلام والتنمية والاحترام المتساوي للدول والشعوب، من دون استثناءات وتمييزات سلبية وإيجابية، تفاقم أوجه الخلل، وتضعف مرتكزات الثقة.

وغنيٌّ عن القول إن تنامي وزن الكتلة الخليجية يتطلّب (على الدوام) حُسن استثمار هذه المكانة بالتجسير بين بعض التباينات الخليجية، والتقريب بين بعض الرؤى، وإدامة أوثق الروابط مع العمق العربي الذي لا بديل منه، بما في ذلك دوام الحرص على المؤسّسات العربية أيّاً يكن الرأي في مدى فاعليتها. وواقع الحال أن تماسك الكتلة الخليجية قد أسهم في الحفاظ على حدّ أدنى من التماسك العربي، ممّا تُعبّر عنه مخرجات القمم العربية التي تحتاج إلى تفعيل وتصليب من أجل مغادرة واقع بائس بدت فيه منطقتنا ميداناً للاستباحة والتدخّلات الفجّة والتهديدات الصفيقة، وفي سبيل حفظ الحقوق والمصالح العربية بغير انتقاص أو تبخيس.

العربي الجديد
الخليج يتقدّم وأميركا تتغيّر _ محمود الريماوي