طوني عيسى
عندما بذل الأميركيون والسعوديون جهودهم لإيصال رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون ورئيس الحكومة نواف سلام إلى السلطة، كانوا ينتظرون منهما الوفاء بالتزامات واضحة: تنفيذ القرارات الدولية واتفاق وقف النار لجهة نزع سلاح «حزب الله» كلياً. ولكن، إذا بقي «الحزب» يصرّ على موقفه الرافض: «نُعطيكم سلاحنا في جنوب الليطاني فقط»، فكيف ستخرج السلطة الجديدة من هذا المأزق الخطِر؟
بأي ثمن، لا يُريد «الحزب» تسليم سلاحه، ويقول: كيف تريدون انتزاع ورقة القوة الوحيدة المتبقية في أيدينا، فيما إسرائيل تحتل أرضنا وتواصل اعتداءاتها أينما كان؟
هذا المنطق يعني أنّ «الحزب» لم يبدّل المعادلة التي لطالما كان يبرّر بها احتفاظه بالسلاح، وهي أنّ إسرائيل ما زالت تحتل أرضاً لبنانية، وأنّ الجيش ليس قادراً على ردع اعتداءاتها وتحرير الأرض. لذلك، المقاومة لا يمكن أن تتخلّى عن سلاحها.
ومنذ العام 2000، برّر «الحزب» سلاحه باحتلال إسرائيل مزارع شبعا وتلال كفرشوبا، بعد الإصرار على اعتبارها أرضاً لبنانية، ولو أنّ حليفه نظام الأسد بقي يرفض الاعتراف بذلك، ما أوحى لخصوم «الحزب» بوجود توزيع للأدوار بين الطرفين لتبرير الاحتفاظ بالسلاح. واليوم، بات «الحزب» يمتلك تبريرات إضافية. فإسرائيل احتلت مناطق جديدة واسعة عند الشريط الحدودي، وهي تتحكّم بأخرى. ولذلك، هو لم يعد في حاجة إلى المزارع ذريعةً للاحتفاظ بالسلاح.
وفي الأيام الأخيرة، بدأت تتسع موجة رفض التخلّي عن السلاح، ولم تعد مقتصرة على «الحزب»، بل تشمل البيئة الشيعية بمجملها. وإذا كان المفتي الجعفري الممتاز الشيخ أحمد قبلان حاسماً منذ اللحظة الأولى في التحذير من «اللعب بنار» نزع السلاح، فإنّ المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى سارع بدوره إلى إنقاذ أقنية تمويل «الحزب» وبيئته، عندما تبنّى مبلغ المليونين ونصف المليون دولار الذي تمّ ضبطه في المطار. كما أنّ رئيس مجلس النواب نبيه بري الذي منح التغطية الشيعية للعهد والحكومة، أظهر مواقف لا تبتعد كثيراً عن رؤية «الحزب» في موضوع السلاح.
حتى الآن تعالج الحكومة مأزقها بالصمت، تجنباً لصدام لبناني داخلي. وهذا الصمت يعني إمرار الوقت لعلّ معطيات داخلية وخارجية تولد وتساهم في الحلحلة. ولكن، بالتأكيد، عون وسلام ليسا مستعدين لمواجهة ملف السلاح قريباً، علماً أنّ الوقت يضغط على الجميع.
وفي الحقيقة، يدور هذا الملف حول نفسه، بين استحالتين: استحالة انسحاب إسرائيل من دون نزع السلاح بكامله، واستحالة قبول «الحزب» بتسليم سلاحه ما لم تنسحب إسرائيل كلياً.
في الأسابيع المقبلة، سيزداد الضغط على الحكومة لتحزم أمرها في ملف السلاح. وسيكون ذلك شرطاً لتلقيها المساعدات من المجتمع الدولي. ومن دون هذا الدعم، سيُترك لبنان وحيداً وضعيفاً في مواجهة إسرائيل. وطبعاً سيبقى تحت الحصار، ما يعني سقوط مشروع الدولة الموعود.
المخرج الأكثر أماناً هو أن يضع «حزب الله» نفسه في خدمة مشروع الدولة، ويراهن على الديبلوماسية لتأمين انسحاب إسرائيل. وطبعاً، هو ليس مقتنعاً بهذا الخيار وما يمكن أن يحققه من نتائج. لكنه لا يجيب عن السؤال الآخر: ألم تؤد المقاومة المسلحة إلى عكس الأهداف المرسومة، فدمّرت أجزاءً واسعة من البلد، وأوقعت خسائر هائلة في صفوف «الحزب» ولبنان؟ بل، ألم تتسبب بوضع لبنان مجدداً تحت الاحتلال، بعدما كانت أرضه كلها محررة؟ وفي أي حال، ما يمكن للبنان تحقيقه بالديبلوماسية والتماسك الوطني أكبر بكثير مما يمكن أن تحققه المقاومة التي تتبنّاها فئة واحدة.
لكن الصراحة تقتضي قول كلام آخر، وهو أنّ «حزب الله»، مدعوماً بالقوى السياسية والدينية الأساسية داخل الطائفة، ليس مستعداً للتخلّي عن السلاح إلّا في حال واحدة، وهي أن يمسك تماماً بالسلطة، وفي شكل دائم. فحينذاك ينتقل هذا السلاح من يده اليمنى إلى يده اليسرى، بعد ارتدائه البزة الرسمية. وهذا تحديداً ما يريد تحقيقه من الاستراتيجية الدفاعية. فالقوى الشيعية تخشى أن تخسر ما بقي لها من قدرات، بعدما خسرت كثيراً منها في الحرب، وتعتبر أنّ انقلاب الموازين في سوريا هو مبرّر إضافي لها لكي تحتفظ بقوتها في لبنان. لكن ما تطمح إليه لم يعد أمراً سهل التحقيق.
ويراهن «الحزب» على الوقت لعله يعيد خلط الأوراق في سوريا ويتيح صفقة أميركية - إيرانية تسمح له بالإبقاء على الحدّ الأدنى من قواه المسلحة. وثمة من يقول إنّه لن يفقد الأمل في استعادة الممر السوري، ما دام الحكم الجديد هناك لم يستتب. فالتوترات الواقعة بين قوات السلطة والبيئات العلوية والدرزية والكردية، ربما تفرز وقائع جديدة تعيد مناخات لبنان إلى حدّ من التوازن.
وعملاً بمقولة وليد جنبلاط، «أنتظرُ جثة عدوي على ضفة النهر»، يبدو أنّ «حزب الله» أيضاً جالس فعلاً على ضفة النهر، نهر الليطاني، في انتظار جثة عدو قد تصل. لكن المثير هو أنّ الجميع في لبنان يعيشون حال الانتظار: إسرائيل تنتظر ما ستفعله السلطة و»الحزب»، والسلطة تنتظر ما ستفعله إسرائيل و»الحزب»، و»الحزب» ينتظر ما ستفعله السلطة وإسرائيل. والدوران داخل هذه المعادلة المقفلة، على طريقة «البيضة أولاً أو الدجاجة أولاً»، يُخشى أن يقود إلى انفجار، في أي لحظة.