طارق الهاشمي
وأخيرًا، سكتت مدافع الاحتلال، وتوقف أزيز الطائرات القاصفة، واستقر غبار المعركة، ونهضت العنقاء من بين الركام والرماد، حيّةً متعافية، بينما انكفأ المعتدي يجر أذيال الخيبة والهزيمة، يلاحقه العار، وتحاصره ارقام الخسائر الهائلة من كل حدب وصوب، وملاحقات قانونية، وسمعة دولية بلغت من الانحطاط الحضيض …وقد خاب من حمل ظلمًا.
كانت مواجهة استثنائية بكل المقاييس، فريدة من نوعها في كل مراحلها، منذ انطلاق طوفان الأقصى إلى نهايتها بتوقيع اتفاقية وقف إطلاق النار التي دخلت حيز التنفيذ صباح الأحد أول أمس، معركة فارقة في مقدماتها ونتائجها، (فارقة ) في الفارق الهائل الكبير بين قوة المعتدي وتواضع ما لدى المعتدى عليه، (فارقة ) في منازلة ما حصلت في التاريخ يوما، شعب صغير محشور في شقة صغيرة من الارض يعيش تحت الحصار منذ سنوات يتصدى لتحالف دولي مشهود له بالتفوق المادي والعسكري والتقني يحاول ان يركّعه ويخضعه لارادته على مدى خمسة عشر شهراً لكنه يعجز !! لقد كانت (فارقة ) في جسامة الحملة الوحشية البربرية التي شنها جيش الاحتلال، مسخرًا كل أدوات القتل والتدمير. نعم هي ( فارقة ) في تضحيات أهل غزة وصمودهم وتحملهم.
هذه الحرب لم تكن مجرد معركة عسكرية، بل ملحمة إنسانية وشهادة على قدرة البشر على التحدي والصبر. عندما يُخير الغزّاوي بين النزوح الآمن خارج القطاع أو الموت، يختار الشهادة على الحياة الذليلة. مشهد يتكرر؛ الأبناء والأمهات، الأسر بأكملها، يختارون البقاء والصمود، يقفون في وجه العدوان متحدّين الموت بل كل محاولة تنال من إرادتهم وعزيمتهم.
ليوثّق التاريخ هذا الإصرار العجيب في التشبث بالأرض. وليُبدع الشعراء والأدباء والمفكرون في تخليد هذه الملحمة، وليرسم الفنانون، وليتقمص الممثلون على خشبات المسرح ما شاءوا من أدوار. لكن مهما بلغت محاولاتهم، لن يتمكنوا من تجسيد تلك الاحاسيس الجياشة المرهفة لذلك الجد خالد النبهان الذي يخاطب جثمان حفيدته بين يديه بـ ( روح الروح ) …وماهي ايام حتى يلتحق بها شهيداً إلى الرفيق الأعلى، او مشهد الأم الغزّاوية وهي تنظر إلى جثامين أولادها الأربعة وزوجها الممددين أمامها على الارض، مخاطبة العالم بكل قوة وثبات: "افعلوا ما شئتم، نحن أصحاب الأرض. لن نرحل، لن نغادر. جذورنا عميقة….عميقة في هذه الأرض. الله مولانا ولا مولى لكم.”
ما وصلنا من مشاهد عبر الفضائيات ومنصات التواصل الاجتماعي لا يعكس سوى النزر القليل. أما القصة الكاملة لصمود غزة، فلم تُكتب بعد. وما خفي أعظم وأجلّ.
في المعاهد العسكرية، هناك درس يُعرف بـالسَّوْق، يُعنى بإعداد الشعوب للحرب نفسيًا ومعنويًا، وتهيئتهم لتحمل المآسي والكوارث. بعد غزة، لم تعد الحاجة لمثل هذه الدروس أو الكتب والمؤلفات؛ فقد اختزلت غزة كل المعاني وكل العلوم. يكفي أن يُقال لمن يجهل صمود النفس وتحملها: "تعلّموا من غزة.” غزة باتت مدرسة تُدرّس الصبر والإرادة. في هذه الحرب، من هزم العدوان ليس بسالة المقاوم، بل في تصوري إرادة الغزاوي البسيط، بإيمانه وصموده الأسطوري. وفي المقابل، ترى ما الذي اجبر الاحتلال على الرضوخ، و نتنياهو على قبول صفقة التبادل ووقف إطلاق النار، وكان هو قد رفضها سابقًا، هل هناك من دافع غير الجبهة الداخلية المهترئة في كيان الاحتلال. انهيار هذه الجبهة، بما تحمله من أزمات اقتصادية وسياسية واجتماعية وحتى دينية وشبح الموت الذي يؤرق كل مستوطن، كان العامل الحاسم في القرار الذي تجرعه نتن ياهو كما يتجرع السم.
تأملوا كلمات نتنياهو في خطابه: "هذه حرب القيامة التي تكبدنا فيها خسائر هائلة، لهذا فان القرارات نتخذها بناءً على اعتبارات أمنية وسياسية واقتصادية لا أستطيع الإفصاح عنها!” لو كانت هذه الاعتبارات تحمل لهم نصرًا، لما توانى عن الإعلان عنها وتعظيمها. بهذا المعنى كتبت افتتاحيتها صحيفة هآرتس الاسرائيلية: « إنهم فعلا أصحاب الأرض ومن غير أصحاب الأرض يدافع عنها بنفسه وماله وأولاده بهذه الشراسة وهذا الكبرياء والتحدي…
وانا كيهودي أتحدى أن تأتي دولة إسرائيل كلها بهذا الانتماء وهذا التمسك والتجذر بالأرض بعد أن أذقناهم ويلاتنا من قتل وسجن وحصار وفصل واغرقناهم بالمخدرات وغزونا أفكارهم بخزعبلات تبعدهم عن دينهم كالتحرر والإلحاد والشك …»
هذه هي صفحة الصمود الأسطوري (الفارقة ) في سفر غزة، وهناك صفحة (فارقة) اخرى تنتظر العالم ستكون اكثر اثارة ودهشة وإعجاباً …هي صفحة اعادة البناء والإعمار …
هكذا كانت غزة، وهكذا ستظل غزة …درسًا للعالم، وملحمة خالدة لا تنتهي. اما صفحة المساعي الحميدة (الفارقة) التي اقترنت بدولة قطر فلها موعد آخر ومقال آخر …
صحيفةالشرق القطرية