صلاح سلام
في بلد تُختَزل فيه الدولة بمواقع النفوذ الطائفي وتُدار فيه المؤسسات بمنطق الصفقات، يبقى الحديث عن قضاء مستقل بمثابة تمرّد على المنظومة، لا مجرد مطلب إصلاحي.
منذ اندلاع الأزمة المستمرة منذ العام 2019، برز القضاء كأحد أبرز وجوه الانهيار، لا بسبب غياب النصوص فحسب، بل نتيجة تحكّم السياسة بالمؤسسة القضائية، حتى كادت تصبح ذراعاً من أذرعها.
لقد عانى القضاء اللبناني، طويلاً، من تدخلات السياسة، ومنطق الزبائنية، والمحاصصة الطائفية التي حوّلت المؤسسة القضائية إلى أداة في يد النافذين، بدل أن تكون سلطة تراقب وتحاسب وتطبّق العدالة على الجميع من دون استثناء. وبفعل هذه الانتهاكات المستمرة لاستقلال القضاء، ضعفت ثقة الناس بالمؤسسة القضائية والقائمين عليها، وتعطّلت محاسبة المرتكبين، وتمّ استخدام القضاء أحياناً لتصفية حسابات سياسية بدل أن يكون ملاذاً للحق والعدل.
ويحمل مشروع قانون الإصلاح القضائي الذي أقرته الحكومة الأسبوع الماضي في طيّاته فرصة نادرة لإنقاذ ما تبقّى من هيبة الدولة، وإعادة بناء مؤسسة يُفترض أن تكون المرجع الأخير للعدالة والمساءلة.
أهمية هذا المشروع تتعدّى مضمونه القانوني إلى كونه اختباراً سياسياً وأخلاقياً للطبقة الحاكمة: هل هي مستعدّة للتخلّي عن أحد أبرز أدواتها في إدارة النفوذ والمحسوبيات؟
الهدف الأساس من مشروع القانون هو تكريس استقلالية القضاء عن السلطة السياسية، عبر إعادة تشكيل مجلس القضاء الأعلى بطريقة ديمقراطية داخلية، وتنظيم التعيينات والمناقلات القضائية على أساس الكفاءة والنزاهة، بعيداً عن الوصاية السياسية. كما يقترح المشروع آليات لتقييم القضاة ومحاسبتهم، ويؤسس لثقافة الشفافية داخل السلك القضائي. لكن الأهم من النصوص، هو ما إذا كان ثمة إرادة فعلية لتحرير القضاء من التبعية التاريخية للسلطة التنفيذية.
ليس سرّاً أن التدخلات السياسية، والمحاصصة الطائفية، والضغوط المالية على القضاة، شكّلت على مدى عقود عناصر الانهيار التدريجي للثقة بالمؤسسة القضائية. قضاة شجعان تمّت محاصرتهم أو تهشيمهم، وملفات فساد طُمست، وقضايا رأي عام بقيت رهينة التجاذبات، لا الأدلة.
إصلاح القضاء لا يمكن أن يكون تقنياً فقط. هو مسألة سيادية، بل هو شرطٌ لوجود الدولة. لا يمكن الحديث عن مكافحة الفساد في ظل قضاء يخضع للتلفونات. ولا يمكن اجتذاب الاستثمارات، ولا حتى تحريك عجلة الاقتصاد، من دون بيئة قضائية تضمن الحقوق وتحمي العقود وتردع التعديات.
لبناء قضاء مستقل، لا بد من السير في خطة متكاملة تبدأ بإقرار مشروع القانون الذي أقرته الحكومة لتحرير القضاء من الوصاية السياسية والحزبية، وتمرّ عبر تحسين ظروف عمل القضاة مادياً ومعنوياً، وتوفير بيئة آمنة ومستقرة تحصّنهم من الضغوط، وتُعزز من استقلاليتهم. فالقاضي الذي يخشى على راتبه أو مستقبله الوظيفي لا يمكن أن يحكم بعدل. وتنتهي بإنشاء آليات رقابة ومساءلة واضحة وفعالة. كما أن تحديث النظام القضائي ورقمنته يساهمان في تقليص الفساد، وتسريع المحاكمات، وتقوية الشفافية.
لكن كل هذه الإجراءات تبقى بلا جدوى إذا لم تُقرن بإرادة سياسية حقيقية. وهنا يأتي دور المجتمع المدني، في الضغط والمراقبة ورفع الصوت. فلا إصلاح ممكناً من داخل المنظومة وحدها، ولا عدالة تُصنع في غرف مظلمة.
لقد آن الأوان لأن يقول اللبنانيون كلمتهم، ولأن ترفع السلطة السياسية يدها عن القضاء، ولأن يولد في لبنان قضاءٌ جديد، عادل، مستقل، وشفاف. فبغير ذلك، لا مستقبل للدولة، ولا مكان للعدالة.
نعم، لبنان يقف اليوم أمام مفترق مصيري: إمّا قضاء مستقل يعيد الاعتبار للمؤسسات ويؤسس لدولة القانون، وإما استمرار الانحدار نحو نظام بلا محاسبة، بلا ثقة، بلا مستقبل.
الخيار واضح، لكن السؤال الأهم: هل نملك الجرأة لاختياره؟
الجواب عند نواب الأمة!