إلى غسّان سلامة: كلامك من الماضي _


صالح المشنوق

- "الإعلان عن حلّ جمیع المیلیشیات اللبنانیة وغیـر اللبنانیـة وتسـلیم أسـلحتها إلـى الدولـة اللبنانیـة خـلال سـتة أشـهر".

وثيقة الوفاق الوطني – اتّفاق الطائف

- "يدعو إلى حلّ جميع الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية ونزع سلاحها".

نص قرار مجلس الأمن 1559

- "بدءاً بمنطقة جنوب الليطاني، تفكيك جميع البنى التحتية والمواقع العسكرية ومصادرة جميع الأسلحة غير المصرّح بها التي تتعارض مع هذه الالتزامات".

نص اتّفاق وقف إطلاق النار بين لبنان وإسرائيل

أصاب رئيس الحكومة نواف سلام حين صرّح بأن معادلة "جيش وشعب ومقاومة" أصبحت من الماضي وأن "البيان الوزاريّ ينصّ بوضوح على حصر السلاح بيد الدولة". لكن بدل الالتزام بهذا المنطق السياديّ الرصين، أعاد وزير الثقافة في حكومته غسّان سلامة إحياء معادلات خشبية قديمة - جديدة، بقوله: علينا "إعادة النظر في المفهوم"، والمفهوم ليس نزع السلاح بل بسط سلطة الدولة على أراضيها. لن يشفع للوزير سلامة استعماله المفتعل لتعابير أكاديميّة، مثل "طرح السؤال المفهومي"، للتغطية على موقف سياسي مريب من مسؤول رسمي في الدولة اللبنانيّة. وهذا الموقف ليس فقط مليئاً بالمغالطات البديهيّة، ويطغى عليه بعد عقائدي من مخلّفات العقد السابع من القرن المنصرم، بل يخالف في جوهره كلّ النصوص التي تلتزم بها الحكومة التي هو عضو فيها. إنّ التذاكي بإعطاء أبعاد فلسفيّة للتغطية على سلاح "حزب اللّه"، لم يعد له مكان في السياسة اللبنانيّة في مرحلة ما بعد الحرب المدمّرة، وهو – كما قال الرئيس سلام – أصبح كلاماً من الماضي.

بالمعنى "المفهومي"، المسألة ليست مرتبطة حصراً ببسط "سلطة الدولة"، بل بنزع سلاح الميليشيات. أفترض أن الوزير المثقّف قرأ نص اتفاق الطائف، الذي يتحدّث حرفياً عن حلّ الميليشيات و "تسليم أسلحتها". وأفترض أيضاً أنه قرأ نص القرار الأمميّ 1559، الذي يدعم "نزع سلاح" الميليشيات اللبنانيّة. وأفترض أيضاً وأيضاً أنّه اطّلع (بحكم أن الحكومة التي يشارك فيها مهمتها الأساسية تنفيذ الاتفاق) على نص اتفاق وقف إطلاق النار بين لبنان وإسرائيل، الذي يتحدّث عن "مصادرة" جميع أسلحة الميليشيات. إذا كان تعبير "النزع" غليظاً، على حدّ قول سلامة، يمكنه اختيار أيّ من التعابير الأخرى المستعملة، والتي تناسب ذوقه الرفيع، وهنا لديه ثلاثة خيارات: تسليم السلاح أو مصادرته أو حصره بيد الدولة. التعبير الرابع الوحيد المتاح هو الاستقالة، بحكم أنه لا يبدو موافقاً على التزامات حكومته السياديّة.

المسألة لا تختصر أبداً ببسط سلطة الدولة، وهو مفهوم ضروري لكنّه غير كافٍ. الدولة بقواها العسكرية والأمنية موجودة في جنوب لبنان منذ العام 2006، تنفيذاً للقرار الأمميّ 1701. لكنها بسطت سلطتها من دون حصريّة، أي أنها تعايشت (بل رعت) وجود السلاح الميليشياوي الإيراني إلى جانبها. والمسألة لم تكن يوماً مسألة عديد وعتاد، بل مسألة قرار سياسي، لأن الدولة لم تفشل في نزع سلاح "الحزب" في جنوب لبنان بسبب وجود خمسة آلاف عسكري بدل خمسة عشر ألفاً، بل بسبب قرار الحكومة اللبنانيّة بشرعنة سلاح "الحزب" وعدم مواجهته. الحرب الأخيرة حصلت بحضور الجيش اللبناني في الجنوب حيث كان "يبسط سلطته". لذلك، فإن بسط السلطة لا يعني شيئاً من دون تسليم السلاح، ولذلك نصّ الطائف على الاثنين معاً.

هذا "مفهومياً"، أمّا بالمعنى العمليّ، ما قاله سلامة مخالف لأبسط التجارب التاريخيّة اللبنانيّة (والعالميّة) الحديثة. قوله إن "بكل بيت في سلاح"، وهي حجّة مكرّرة دأب على تردادها محور الممانعة لشرعنة سلاح "الحزب"، فيه استخفاف بعقول اللبنانيين، الذين يمكنهم التفريق بين سلاح كلاشنيكوف فردي موجود في الكثير من البيوت وترسانة عسكريّة ذات بعد إقليمي فيها صواريخ مداها يتجاوز المئة كيلومتر. كما أن الاستشهاد بالتجربة الليبيّة للقول إن جمع عشرين مليون قطعة سلاح من منازل الناس مستحيل عملياً، فيه تضليل متعمّد للبنانيين، الذين يعرفون تمام المعرفة أن السلاح في لبنان (على عكس ليبيا) ليس متفلّتاً أبداً، بل منضبطاً استراتيجياً ويستعمل بقرار مركزي دقيق. عملياً، تمّ تسليم سلاح جميع الميليشيات اللبنانيّة (وحلّها كميليشيات) في العام 1991، من القوات اللبنانيّة إلى حركة أمل إلى التقدّمي الاشتراكي، والمطلوب ببساطة تطبيق المسار العملي نفسه على "استثناء" "حزب اللّه". "فرجيني كيف بتنزع سلاح"، قال الوزير بثقة العالم، فيما التجربة ماثلة أمامنا جميعاً (من لبنان إلى جنوب أفريقيا إلى البوسنة إلى شمال أيرلندا إلى إلى). على أقلّ تقدير، كان يمكن للوزير استعمال مخزونه الأكاديمي للتخويف من احتمالية الحرب الأهليّة في حال الشروع في نزع السلاح، أقلّه لجعل النقاش في المسألة أكثر واقعية.

لم يكتفِ سلامة بالبعد العسكريّ لنظريّته غير الدستورية، بل أضاف عليها بعداً "مدنيّاً"، يعكس بكل وضوح طغيان الجانب الأيديولوجيّ في عقله على أي قدرة موضوعيّة لتحليل الوقائع السوسيولوجية والتاريخية على حقيقتها. فقد شرع في إعادة صياغة نظريّات يساريّة برزت في بدايات ما كان يعرف بالحركة الوطنيّة اللبنانيّة، قائمة على أن مسبّبات حمل السلاح ومشروعيّته تكمن (ولو جزئياً) في "محروميّة" البيئة الحاضنة للسلاح بالمعنى الاجتماعي-الاقتصادي (وفي ذلك استخفاف ولو غير مقصود بخيارات الناس العقائديّة). بغضّ النظر حول النقاش عن طبيعة حضور الدولة بالمعنى الاجتماعي-الاقتصادي، فإنه من الواضح أن الوزير سلامة (ربما من كثرة الغربة) ليس مطّلعاً على أوضاع الجنوب التنمويّة (أقلّه قبل حرب الإسناد)، وإلّا ما استطاع حتى محاولة إسقاط نظريات معلّبة على واقع مخالف تماماً لمقتضيات هذه النظريات. إن منطقة الجنوب من أكثر المناطق اللبنانية إنماءً وازدهاراً (بعد بيروت وجبل لبنان)، وقد استثمر فيها من قبل الدولة في مرحلة ما بعد الحرب أكثر من أي منطقة أخرى. حتى أن "النكتة" الرائجة بين أهالي الجنوب هي أن الرئيس برّي (ومجلسه الجنوبي) تمكّنا من إعمار عدد مدارس في المنطقة تفوق عدد الطلاب والأساتذة. لذا لا حاجة للترويج لنظريات مفادها أن شرعيّة السلاح لها بعد اقتصادي-اجتماعي، أو أن نزعه يتطلّب جهداً مسبقاً على المستوى التنموي (هل الحشد الشعبي العراقي أيضاً نتيجة نقص في المخابز؟)، لأن المسألتين (بالمعنى المفهومي المثبت) منفصلتان تماماً. السلاح هو من أفقر الجنوب (ودمّره)، وليس فقر الجنوب هو الذي أنتج السلاح.

استبشر اللبنانيون خيراً من قدوم وزير ثقافة يحظى بسمعة دولية مرموقة، وحيثيّة معنويّة ليبراليّة رصينة، خصوصاً بعدما عانوا سنوات من تخلّف سلفه الحضاري والأخلاقي. لكن لا يكفي أن يكون الفرق على مستوى المقاربات تجاه المسائل الثقافية والفنية والمعرفية، بل وقبل كل شيء بالمسألة السيادية، لكي يبقى لنا بلد نستمتع فيه بالإنجازات التي ينوي الوزير سلامة تحقيقها على مستوى وزارته.

صحيفة الجمهورية
إلى غسّان سلامة: كلامك من الماضي _صالح المشنوق