أميركا وفنزويلا... قرصنة دولية تُنْذُرُ بالأخطر _


أسامة أبو ارشيد

ليست القرصنة أمراً جديداً على دونالد ترامب، فقد مارسها مرّات ومرّات ، على الصعيدين الدولي والداخلي. في إبريل/ نيسان 2020، وفي ذروة جائحة كورونا، اتهمت ألمانيا الولايات المتحدة، في الولاية الرئاسية الأولى لترامب، بمصادرة 200 ألف كمّامة واقية، في العاصمة التايلاندية بانكوك، كانت سلطات برلين قد دفعت ثمنها، ووصفت ذلك بأنه "من أعمال القرصنة الحديثة". لم تكن ألمانيا وحدها من وجهت الاتهام لواشنطن بممارسة القرصنة حينها، بل انضمت إليها فرنسا وكندا والبرازيل. وقبل أسابيع، سطا ترامب على معهد الولايات المتحدة للسلام، والذي أنشئ عام 1984 بتشريع من الكونغرس وقعه الرئيس الأسبق رونالد ريغان، محوّلاً اسمه إلى معهد ترامب للسلام. ورغم أن المعهد يفترض فيه أن يكون غير ربحيٍّ وغير حزبيٍّ ومستقلاً ومموّلاً من الحكومة الأميركية، إلا أن الخارجية الأميركية لم تتردّد في تبرير قرارها بإضافة اسم ترامب إلى المعهد بزعم أنه "صانع سلام" و"صانع صفقات". ومن ثمَّ، ليس مستغرباً ما أعلنه ترامب الثلاثاء الماضي من فرض حصار شامل على دخول ناقلات النفط "الخاضعة للعقوبات" إلى فنزويلا وخروجها منها، وهو قرارٌ جاء بعد أشهر من التصعيد ضد نظام الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو ومحاولات إسقاطه.

بكل وقاحة، كتب ترامب على منصته "تروث سوشال" مبرّراً قرار الحصار على فنزويلا: "بسبب سرقة أصولنا، ولأسباب أخرى عديدة، بما في ذلك الإرهاب، وتهريب المخدرات، والاتجار بالبشر، فقد تم تصنيف النظام الفنزويلي منظمة إرهابية أجنبية. لذلك، اليوم آمر بفرض حصار كامل وشامل على جميع ناقلات النفط الخاضعة للعقوبات المتجهة إلى فنزويلا والخارجة منها". وكانت الولايات المتحدة قد استولت الأسبوع الماضي على ناقلة نفط قبالة سواحل فنزويلا. ولا يبذل ترامب جهداً في محاولة إخفاء أطماعه الجيوسياسية، إذ "فنزويلا محاصرة بالكامل بأكبر أسطول بحري جُمع في تاريخ أميركا الجنوبية.. وسيزداد هذا الأسطول حجماً، والصدمة لهم ستكون غير مسبوقة، حتى يعيدوا إلى الولايات المتحدة كل النفط والأراضي والأصول الأخرى التي سرقوها منا سابقاً". ولكن، ما الذي "سرقته" فنزويلا من الولايات المتحدة؟ لا شيء، إلا أن ترامب يعتبر قرار كاراكاس تأميم قطاع النفط في البلاد في السبعينيات، وأنهى سيطرة الشركات الأميركية عليه هو "السرقة"، مع أنها عملياً كانت خطوة على طريق وقف نهب الثروات الوطنية. وقد ردَّ مادورو على قرار ترامب: "الإمبريالية واليمين الفاشي يريدان استعمار فنزويلا للاستيلاء على ثروتها من النفط والغاز والذهب وغيرها من المعادن". ومن المعلوم أن فنزويلا تمتلك أكبر احتياطي نفطي في العالم.

يقودنا الحديث عن تصعيد إدارة ترامب ضد فنزويلا (يهدّد بعمل عسكري بريٍّ وشيك ضدها في خضم هجمات أميركية جوية على قوارب في المياه الفنزويلية الإقليمية، بذريعة أنها تهرّب مخدرات إلى الولايات المتحدة) إلى استراتيجية الأمن القومي الأميركية لعام 2025، والتي أصدرتها إدارة ترامب في ديسمبر/ كانون الأول الجاري. وهي تؤكّد أن واشنطن ستعمل على إعادة تأكيد الهيمنة الأميركية في نصف الكرة الغربي، والتي تشمل الأميركتين الشمالية واللاتينية. يذكّر هذا بـ"مبدأ مونرو 1823"، نسبة إلى الرئيس الأميركي جيمس مونرو، أن أميركا اللاتينية (تشمل أميركا الجنوبية كلها بالإضافة إلى المكسيك وأميركا الوسطى ومعظم دول الكاريبي) هي "الفناء الخلفي" للولايات المتحدة، يحظر على الدول الأوروبية التدخل فيها. وفي سبيل تأكيد واشنطن هيمنتها على هذه المنطقة الشاسعة، أو ما تعده "فناءها الخلفي"، خاضت حروباً طاحنة مع بعض الدول الأوروبية الاستعمارية، مثل الحرب الأميركية- الإسبانية (1898) والتي انتهت بانتصار الولايات المتحدة، واستقلال كوبا، واحتلال بورتوريكو والفيليبين، ما رسّخ النفوذ الأميركي في الكاريبي.

وفي خضم الحرب الباردة (1947-1991) بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، زادت واشنطن من تدخّلاتها في أميركا اللاتينية بذريعة احتواء النفوذ السوفييتي. من ذلك مثلاً، تدبير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إيه) انقلاباً في غواتيمالا (1954) ضد الرئيس جاكوبو آربنز بسبب إصلاحاته الزراعية التي هدّدت مصالح شركة "يونايتد فروت" الأميركية. وفي تشيلي، دعمت واشنطن (1973) انقلاب الجنرال بينوشيه ضد الرئيس المنتخب سلفادور أليندي، خوفاً من صعود حكومة يسارية. وكذلك الأمر في ثمانينيات القرن الماضي في نيكاراغوا، إذ دعمت واشنطن "الكونترا" ضد حكومة الساندينيستا اليسارية، فيما عُرفت بـ "الحرب بالوكالة". ولم تتوقف تدخّلات واشنطن وعبثها يوماً في أميركا اللاتينية، من كوبا إلى كولومبيا، ومن البرازيل إلى بنما، ومن السلفادور إلى هندوراس، ومن هاييتي إلى الدومينيكان.. إلخ. وها هو ترامب يعيد في ولايته الرئاسية الثانية إحياء "مبدأ مونرو" الاستعماري، والذي يصفه بعضهم ساخراً اليوم بـ"مبدأ دونرو" في جمع بين اسميّ دونالد ومونرو. وكانت المحطة التجريبية الأولى لهذا المبدأ مع ولاية ترامب الرئاسية الثانية (2025) في بنما، عندما هدّد ترامب باحتلال قناة بنما التي تربط عبر 51 ميلاً المحيطين الأطلسي والهادئ بذريعة ممارسة الصين نفوذاً عليها. وتحت ضغوط أميركية هائلة، أعلنت بنما في فبراير/ شباط الماضي أنها لن تجدد اتفاقية "الحزام والطريق" مع الصين، وهو ما يتماشى مع ما نصت عليه استراتيجية الأمن القومي الأميركية (2025) من منع "الملكية الأجنبية للأصول الحيوية" في نصف الكرة الغربي.

باختصار، التصعيد ضد فنزويلا قرصنة دولية مكتملة الأركان، صحيح أن عنوانها ترامب، لكن جذورها أميركية راسخة. وواهم من يظن أن فضاء القرصنة هذا سيكون محصوراً في نصف الكرة الغربي، فترامب لم يخف طمعه بالاستحواذ على جزيرة غرينلاند التابعة إدارياً للدنمارك، كما أنه أرغم أوكرانيا على التنازل عن سيادتها على معادنها النادرة، والعرب وثرواتهم ليسوا بعيدين عن منطق القرصنة الترامبي والأميركي، خصوصاً في خضم التنافس الأميركي- الصيني.

العربي الجديد
أميركا وفنزويلا... قرصنة دولية تُنْذُرُ بالأخطر _أسامة أبو ارشيد