أميركا والعقيدة العسكرية... لماذا التّشويش على المسلّمات في الإقليم؟ _ محمد سي بشير


محمد سي بشير

من بين أكثر ما يستدعي البحث أهميةً، على خلفيّة ما يجري في غزّة منذ نحو عامَين، وفي الجبهة الإيرانية منذ أيّام وفي الجوار الرُّوسي منذ 2022، هو التّشويش الأميركي على العقيدة العسكرية لدول الإقليم، بالمعنى الأميركي المتضمّن في مفهوم الشّرق الأوسط الكبير، بما يتيح الإبقاء على اليد العليا للكيان الصهيوني على حساب الفاعلين جميعهم، بما يمكن معه لبعضهم طرح سؤال محوري في وسائل الإعلام الأميركية، ومضمونه: مَن قائد المركِب في منظومة التّحالف الاستراتيجي بين أميركا والكيان، أهي واشنطن أم تل أبيب؟
تتميّز كلُّ دولة بامتلاكها عقيدةً عسكريةً تقوم على أسس محدّدة تتجاوب مع التّهديدات الوجودية، وتتعامل من خلالها مع المعطيات الجيوسياسية المحيطة بها، إضافة إلى أدوات الردع والمجابهة والتكيّفات المطلوبة في كلّ تغيّر يحصل في دوائر التأثير/ التأثّر، سواء منها الأمنية/ الدفاعية، أو تلك المتّصلة ببقيّة مقوّمات القوة من اقتصاد وسياسة داخلية وتناسق اجتماعي ومجتمعي، من دون إغفال الهُويَّة الخاصّة بالدولة. وإذا انطلقنا من ذلك التوصيف للعقيدة العسكرية، فإن ما يلفت الانتباه أن ثمّة تحالفات تقوم الدول بنسجها، لتقوية مقوّمات القوة لديها، وهو أمر يعرف في التنظير للعلاقات الدولية بـ"قانون توازن القوى"، وأكثر من كتبت فيه، واستخدمت التاريخ خزّان وقائع للتدليل على أنّه قانون أزليّ، هي المدرسة الواقعية التي وضعته أساساً ركيناً إلى جانب ثلاثية القوّة والمصلحة والفوضى.
تغيّر الولايات المتّحدة أسس تلك العقيدة العسكرية، لتميل الكفّة دوماً إلى مصلحة الكيان، وتعطي لمعنى الدفاع عن النفس بعداً لا يوجد إلّا في الحالة الصهيونية، فيسمح لها أن تمدّد عداءها إلى أيّ وجهة كانت، وتسمّي الردّ في هذه الحالة (وهو فعل مشروع في العقيدة العسكرية المُجرّدة) "اعتداءً"، أمّا هجوم الكيان (أو ضربته الأولى) فهو "دفاع عن النفس"، وتعطي له الشرعية، وقبل تدخّلها إلى جانبه أخيراً، وبعد المساندة والدّعم، تهدّد بتوسيع رقعة الحرب إذا لم يستجب الطّرف المهاجَم للشروط المستدعية للهجوم الصُّهيوني، وتركّز (وهذا مهم جدّاً) في لغة تفاوضية قوامها عبارات التخفيف من التصعيد، والعودة إلى طاولة المفاوضات، وتغييب أيّ إرادة لفرض شروط مسبقة، إضافة إلى إحاطة ذلك كلّه بنقل عتاد أميركي عسكري إلى الإقليم، لتسهيل إتمام عملية "الدفاع عن النفس"، بعد أن تكون أعطت لذلك الشرعيةَ في المحافل الدولية، وفي رأسها مجلس الأمن.

يمكن التّدليل على ما سبق بالنموذجَين، الغزّي والإيراني، إذ سلكت الولايات المتّحدة سلوكاً متقارباً في سياق مسلّمة الدفاع عن الكيان، واعتبار أنّ الخصوم/ الأعداء للكيان، هم أعداء/ خصوم لأميركا. نبدأ بالنّموذج الغزّي، إذ تعلم أميركا تمام العلم حيثيات قيام الكيان وإنشاء دولته على أنقاض محنة ومآسي الشّعب الفلسطيني، بل تعلم أميركا أنّ كلّ الحروب التي قامت في الشرق الأوسط كانت لتدعيم أركان هذا الكيان، ولهذا اشتركت، رفقة بريطانيا وفرنسا، في عملية تأمين الأرض بوعد بلفور، وحمايتها بريطانياً حتى قيام الكيان في 1948، لتمدّ فرنسا الكيان بمخطّطات إنتاج القنبلة النّووية، وتؤمّن أميركا الدعم والمساندة بمرجعية التّحالف الاستراتيجي. وبالرغم من ذلك كلّه، تستخدم قواها في ترتيب الإقليم، بما يتيح تفوّق الكيان في المجالات كافّة، حتى تلك المتّصلة بالجوانب الرمزية، على غرار امتلاك اقتصاد قوي ومنظومة تربوية جيّدة أو حتى التناسق الهُويَّاتي، كي لا يربك الكيان، إذ يمكن لقوة صلبة وناعمة (إن وجدت) أن تشكّل تهديداً لوجوده في مسارات جغرافية الشرق الأوسط الكبير، بالمعنى الأميركي.
عملت أميركا، منذ بدء عملية طوفان الأقصى، على حماية الكيان من التهديد بتجريمه بارتكاب حرب إبادة في حقّ الفلسطينيين، من الإعلام إلى المساندة والدعم العسكريَّين، فعبّر ذلك عن تصميم أميركي بإعطاء العقيدة العسكرية معنى واحداً يتضمّن ما أكّده وليد عبد الحيّ منذ أربعة عقود، إذ رأى في مقالة له أن المسلَّمة، غربياً وأميركياً، تفوّق أميركي على كلّ الشرق الأوسط، وفي المجالات كافّة، وأيّ إخلال بهذه المسلّمة هي تهديد للغـرب وأميركا، وتتحوّل فيه هجمات الكيان دفاعاً عن النفس في إطار أبعاد المسلّمة، ذاتها. هل يمكن، والحالة هذه، امتلاك عقيدة عسكرية للقطيعة مع الكيان أو بناء منظومة دفاع وأمن على أساس اعتبار الكيان عدواً؟... الإجابة لا حتماً. وتعمل أميركا لمنع اعتماد أيّ مسلّمة أو إدراك أو تحرّك لامتلاك قدرات قد تستخدم للإخلال بالمسلّمة الأميركية، حتى أكبر الكليات العسكرية في أميركا نفسها، لا يمكن أن تدور إلّا في فلك تلك المسلّمة، و لهذا اعتبرت عمليات "القسّام"، في 7 أكتوبر/ تشرين الأول (2023)، إرهاباً، وبنيت سردية إعلامية اعترف الرئيس جو بايدن نفسه بأنّها كانت من دون دليل، تؤسّس لوحشية القسّام استباقاً للرّد الإبادي والإجرامي الصهيونيّ، مع إرفاق ذلك بمنظومة دعم ومساندة وتشريع للإبادة، بلغت مبلغاً غير معقول بحجم توقيع عقوبات على قضاة المحكمتَين الجنائية والعدل الدوليَّتَين، اللتَين أقرّتا بوجود أدلّة على أنّ سلوك الكيان في غزّة جريمة ضدّ الإنسانية، ويستوجب الأمر القبض على المسؤولين عن تلك الجرائم.
بالنّسبة للنّموذج الإيراني، ثمّة تجاوزٌ أميركي للمسلّمة من نموذج رسالة السّفير الأميركي في الكيان إلى ترامب، إلى الانخراط في الرمزية الدينية، مؤكّدة أن الأمر يتعلّق بالمسيحية الصهيونية. وقد حدثت القطيعة بين إيران وأميركا منذ الأيّام الأولى لقيام الجمهورية الإسلامية في 1979، فكانت المواجهة بعد اختطاف دبلوماسيين في السّفارة الأميركية بطهران، وحاولت أميركا تحرير الرهائن بعملية عسكرية فشلت، وأدّت إلى هزيمة جيمي كارتر في الانتخابات الرئاسية، ووصول الجمهوري رونالد ريغان إلى البيت الأبيض.
بمرجعيّة ما حدث منذ الثورة الإسلامية، بل بمرجعية لعب إيران دور دركي الشرق الأوسط، لم تبنِ إيران عقيدتها العسكرية إلّا لخدمة ذلك الدور، أو لمواجهة حليف الأمس، لكن بسبب الكيان، وادّعاءات قرب امتلاك إيران للقنبلة النّووية، فإنّ العقيدة العسكرية الإيرانية حُوّرت لتصبح متّصلة بحماية الكيان، أي التركيز الأميركي في تهديد إيران للكيان بالبرنامج النووي والصاروخي، مضافاً إليه السعي الأميركي لإتاحة الغلبة للكيان على حساب إيران والفاعلين الأقوياء الآخرين في الشرق الأوسط، وبذلك أصبحت إيران بعقيدة عسكرية تتكوّن من ركيزتَين هما البرنامج النّووي من ناحية، ومساندة إيران لأذرعها في الإقليم، سواء في لبنان والعراق واليمن أو في سورية، بقصد خوض الحروب بالوكالة، من ناحية أخرى. وتتيح التقارير الاستخباراتية الأميركية فرصة الاطّلاع على الكذبة الأميركية (أو بالأحرى الصهيونية)، بأنّ ثمّة برنامجاً نووياً إيرانياً ممّا أتاح لأميركا تهديداً مستداماً للدول الخليجية، وإبراز أنّ الكيان محاط بمنظومة شرّ لا تترك الباب مفتوحاً للسّلام، وفق الرؤية الأميركية، ذلك السلام الذي يعطي للكيان كلّ شيء، وللفلسطينيين أقلّ من سلطة واهية وجغرافية مقطّعة، ودون مقوّمات الدّولة، بل وإرفاق ذلك مع انعدام أيّ إمكانية لعودة اللاجئين (حقّ العودة) أو بتوضيح الوضع الدّائم للأماكن المقدّسة الإسلامية (القدس والمسجد الأقصى).

طبعاً، تلعب دولة الكيان دور الوكيل الحصري للمصالح الأميركية في الإقليم، وبالتالي تتيح لنفسها تشكيل العقائد العسكرية وفق تلك المصالح، ولا تريد أن تتبدّد تلك العلاقة بأيّ تهديدات قد تُخلّ بالتحالفات (وبالمصالح) التي تدرّ على واشنطن الأموال الكبيرة، سواء في قطاع الطاقة والأسلحة أو في ما تتيحه التفاعلات الصراعية من انتعاش لسوق الأسلحة، على الدوام، وبخاصّة أن ذلك التّشكيل للعقائد العسكرية في الإقليم ترافق مع فسح مجال لإيران، وصل إلى درجة نفوذٍ كاملٍ لطهران في أربع عواصم عربية (بيروت وصنعاء وبغداد ودمشق). بالنّتيجة، فإنّ أميركا تشوّش، منذ بدء نفوذها في الإقليم في أعقاب حرب 1967، العقائدَ العسكرية، وترتكز على الكيان، مساندةً ودعماً، في تشكيل، ليس المشهد الاستراتيجي فحسب، بل الأنظمة أيضاً، لأنّ أميركا لا تكتفي بتوجيه العقيدة الاستراتيجية نحو التّهديدات الأمنية/ الدفاعية، بل غالباً ما تعمل استخباراتياً بتوجيه الإدراك نحو أنّ الخطر الأكبر الذي عليه مدار العقيدة الاستراتيجية هو خياران، إمّا القبول بالمشهد كما خطّطت له أميركا والغرب، وإمّا التّعرُّض لخطر قلب الأنظمة، ولهذا لعبت الولايات المتّحدة على وتر تصنيفات المعارضة (المقبول منها والمرفوض من حيث معيار القبول في المشهد المرسوم أميركياً وغربياً)، والإعلان عن معايير الظروف المقبولة لممارسة العمل السّياسي، إضافة إلى عامل التلاعب بالحياة السياسية، وتجييش المعارضات، وكلّ ذلك محوره منع ثلاثية حيوية عن العالم العربي والإسلامي، وهي التطوّر والتنمية والديمقراطية.
في الختام، فإنّ تشويش الأميركيين على العقيدة العسكريّة، ينطلق من مسلّمة اكتساب وكيل حصري لمصالحهم في الإقليم، ومسلّمة متلازمة معها، وهي بناء منظومات العقائد العسكرية على أساسين: أمن الحليف وتفوّقه على الجميع في الإقليم، مع اعتبار أنّ كلّ إخلال بتلك الأسس أو بتلك المسلّمة تهديد، ويجب في كلّ مرّة إعادة عقارب السّاعة إلى ما يضمن بقاء الأمور على حالها، وطبعاً، فإنّ القانون والاقتصاد والتّربية والدين، بل والسينما والأدب، ذلك كلّه يعمل من أجل التلاعب بالعقول في اتّجاه ذلك، ولهذا يهاجم الكيان ويحارب ويتجسّس، بل ويبيد ويرتكب المجازر، لكن الغرب وأميركا معه، ومع سياساته.
أميركا تريده (الإقليم)، بكلّ مسلّمات التفاعلات الصراعية، وفي رأسها العقائد العسكرية، لصالح الكيان، باعتباره وكيلاً، والمتربّع الأول والأخير على المنطقة، وهي بعد بريطانيا وفرنسا، تفعل وتجهّز وتحمي وتضمن، كما أنّها هي من تعطي إشارات الفعل الأزماتيّ في طول الإقليم وعرضه. ولذلك؛ فإنّ المستقبل، تماماً مثل ما وقع في روع وإدراك ووعي يحيى السنوار، لن يتغيّر إلّا إذا وجد الكيان من يعرقل مهمّاته، وعرفت أميركا أنّ ثمّة احتمالاً لعدم نجاح ما سطّرته، وأرادت أن يكون هو الفعل الاستراتيجي الوحيد المقبول في الشّرق الأوسط، ويكفي أن نعرف أنّ وكالات الاستخبارات الأميركية كلّها أجمعت، لمرّات على أن لا برنامجَ نوويّاً إيرانياً بالمعنى العسكري، لكنّه عنصر التفوق الممنوع على الكلّ في الإقليم، إلى ما لا نهاية.

العربي الجديد
أميركا والعقيدة العسكرية... لماذا التّشويش على المسلّمات في الإقليم؟ _ محمد سي بشير