حول تشييع شهداء عكار والتفاعل الوطني _


د. وائل نجم

شيّعت محافظة عكار وشمال لبنان وبلدة ببنين يوم الأحد الماضي (28/4/2024) قائدين من قوات الفجر (الجناح العسكري المقاوم للجماعة الإسلامية) استشهدا بغارة صهيونية غادرة في البقاع الغربي عند أطراف الجنوب حيث تجري المواجهات بين قوات المقاومة من ناحية وبين قوات الاحتلال الإسرائيلي التي تعتدي على القرى والبلدات الحدودية من ناحية ثانية، وقد شهد التشييع في ببنين إلتفافاً شعبياً كبيراً وضخماً حيث قُدّرت أعداد المشاركين بالتشييع من أبناء عكار والشمال عموماً بعشرات الآلاف التي لامست المئة ألف مشارك وفدوا من كلّ قرى وبلدات عكّار ساحلاً وجبلاً وعمقاً فضلاً عن بلدات الضنّية وطرابلس، وحضر التشييع أيضاً مراجع وشخصيات سياسية ودينية وحزبية واجتماعية وبلدية تقدّمها ممثل مفتي الجمهورية اللبنانية، وقد دلّ هذا المشهد في إحدى دلالاته على تفاعل عكار مع القضية التي استُشهد الشهيدان من آل خلف من أجلها وهي قضية الدفاع عن أهل الجنوب بوجه الاعتداءات الإسرائيلية الهمجية، ونصرة أهل فلسطين وغزة على وجه التحديد الذين يتعرّضون لأبشع جرائم الإبادة الإنسانية على أيدي الصهاينة الغزاة وعلى مرأى ومسمع من العالم؛ وقد جسّد المعنى الأول روح التضامن الوطنية بحيث يستشهد ابن الشمال وعكار على أرض الجنوب دفاعاً عن أهله وبلداته بملء إرادته وعن قناعة تامّة منه ومن دون إكراه أو إجبار من أحد. وجسّد المعنى الثاني روح التضامن والانتصار للمظلومين المقهورين بقوّة القمع الإسرائيلي الذي ترعاه إرادة القوّة الدولية التي لا تعرف العدل ولا منطق الرحمة. وأرادت عكار وأهلها أن يقولوا من خلال المشاركة الكثيفة بالتشييع إنّنا على نهج ابْنينا هذين القائدين الشهيدين.

غير أنّه أيضاً لا بدّ من تسجيل بعض الأمور التي رافقت التشييع وتلته وهي :
أولاً: الظهور المسلّح الكثيف وإطلاق النار الغزير الذي حصل خلال التشييع، وهنا لا بدّ من الاعتراف أنّ ظاهرة انتشار السلاح وإطلاق الرصاص في المناسبات على اختلافها ظاهرة قائمة وحاضرة في عكار بل وفي معظم المناطق اللبنانية خاصة البعيدة عن المدن الرئيسية وفي أغلب المناسبات، وهي ظاهرة سيئة ومستنكرة من أغلب المرجعيات الاجتماعية والدينية والسياسية والحزبية وغيرها، وقد عمدت الجماعة الإسلامية صاحبة العزاء إلى القيام بمروحة اتصالات كثيفة قبل التشييع مع مرجيعات أمنية واجتماعية ودينية في المنطقة لتفادي هذه الظاهرة، كما أعلنت مراراً وتكراراً في مواقف وبيانات لمسؤوليها المحلّيين والمركزيين على رفض ظاهرة العسكرة وإطلاق الرصاص في التشييع، لكنّها لم تُوفّق مع كل مرجعيات عكار إلى ضبط هذا الموضوع خاصة وأنّ الأجواء التي رافقت التشييع ربما سمحت بذلك في ظلّ غياب أيّ إجراءات ميدانية رادعة.
ثانياً : أُطلقت حملة كبيرة من إعلاميين ووسائل إعلام وسياسيين استهدفت الجماعة الإسلامية بشكل أساسي ومنطقة عكار والبيئة الإسلامية السنّية بشكل آخر على خلفية الظهور المسلح الكثيف وإطلاق الرصاص، علماً أنّ الجماعة أصدرت بياناً قبل أن ينتهي التشييع أسفت فيه لإطلاق الرصاص وانتشار المسلحين واستنكرت ذلك كما أكّدت على الأمن والاستقرار وأنّ ذلك من مسؤولية الدولة بأجهزتها الرسمية القائمة، ومع ذلك أُطلقت الحملة عليها كما لو أنّ غرفة عملية أطلقت صافرة انطلاق هذه الحملة تحت عنوان الميليشيات وتهديد السلم والاستقرار وفوضى السلاح وانتهاك سيادة الدولة وما إلى ذلك. وهنا يُسجّل أيضاً أنّ أغلب هؤلاء تجاهلوا عن عمد أو عن جهل إدانة جريمة اغتيال الشهيدين التي قامت بها قوات الاحتلال، فلم يتطرّق إليها أحد من المدافعين والحريصين على السيادة مع أنّ أكبر وأخطر انتهاك للسيادة واعتداء عليها هو جريمة اغتيال لبنانيَين في سيارة مدنية لبنانية على أرض لبنانية، وركّزوا فقط على المظاهر المسلّحة وتمّ تصوير منطقة عكار كما لو أنّها خارجة عن الدولة والقانون علماً أنّها أكثر المناطق اللبنانية قناعة بالدولة وانخراطاً فيها. كما يُسجّل أنّ أصحاب هذه الحملة صبّوا كل تركيزهم على منطقة عكار وعلى الجماعة الإسلامية متناسين أو متجاهلين ظاهرة مشابهة كانت قد حصلت قبل أيام قليلة من تشييع الشهيدين في عكار عندما شيّعت "القوات اللبنانية" المغدور "باسكال سليمان" وقد رأى الشعب اللبناني إطلاق الرصاص الكثيف في البلدات التي كان يمرّ فيها موكب الجثمان في طريقه إلى مثواه الأخير، ويومها لم نسمع هذه الحملة الحريصة على الدولة والسيادة! فبرز الموضوع كما لو أنّ المطلوب شيطنة محافظة عكار والجماعة الإسلامية والأهم شيطنة البيئة الإسلامية السنّية في لبنان لثنيها عن القيام بواجبها في الدفاع عن البلد من ناحية، وعن نصرة أهل فلسطين من ناحية ثانية، وعن النهوض الوطني من ناحية ثالثة.
ثالثاً : يُسجّل أيضاً إضافة إلى التفاعل العكاري الوطني التعامل بحكمة مع الحدث من المرجعيات العكارية والمركزية للمسلمين السنّة والجماعة الإسلامية والقوى الأمنية والعسكرية.
فالمرجعيات العكارية الدينية والسياسية رفضت الانسياق وراء هذه الحملة التضليلية كما رفضت اتهام عكار بالخروج عن منطق الدولة بموازاة رفضها التعرّض لأبنائها مع استنكارها لظاهرة انتشار السلاح وإطلاق الرصاص، وهي بذلك رسمت سقفاً وحدوداً للتعامل مع الحدث.
والمرجعيات المركزية السياسية والدينية للمسلمين السنّة في لبنان رفضت أيضاً شيطنة هذا الطوفان البشري العكاري والشمالي الوطني الهائل والمحتضن للخيار الوطني بالدفاع عن الجنوب وعن فلسطين، ورفضت أيضاً الانخراط في الحملة التي استهدفته، وقد نال هذه المرجعيات بعض هذه الحملة، لإدراكها أنّ هذا الطوفان لا يمكن أن يكون في مواجهة قيام الدولة أو مضرّاً بها.
والجماعة الإسلامية صاحبة العزاء تعاملت أيضاً بحكمة مع الحملة عندما رفضت الانسياق إلى أيّ سجال مع مطلقي الحملة ومروّجيها واكتفت ببيان واضح أكّدت فيه على مواقفها المتكرّرة من مسألة الدولة والسيادة والاستقرار والانفتاح على الجميع، كما أكّدت على تواصلها مع المعنيين في الأجهزة الرسمية قبل التشييع وبعده بهدف وضع حدّ لأي اسغلال من أيّ طرف كان، وهو ما كشفه وصرّح به مسؤولها السياسي في عكار رئيس بلدية ببنين الدكتور كفاح الكسّار.
وكذلك فإنّ الأجهزة العسكرية والأمنية تعامل بحكمة مع الحدث ولم تخضع للضغوط التي مارستها حملة التضليل لأنّ قيادة هذه الأجهزة الحريصة على أمن واستقرار البلد تدرك وتعلم جيداً المتربصين بالبلد من المضحّين في سبيله ولذلك تعاملت بحكمة حتى لا تتحقّق رغبة الذين يطلقون العنان لحملاتهم من دون النظر إلى مآلاتها ونتائجها.
لبنان بحاجة في هذه المرحلة لتضافر الجهود من الجميع الدفاع عنه وتجنيبه النوايا الإسرائيلية الشريرة والخبيثة التي باتت مكشوفة ومعروفة للجميع، وما من أحد يهوى الحرب أو يريد الذهاب إليها، ولكنّ منطق الأمور قد يفرض أحياناً الذهاب إليها نسبياً من أجل تجنّبها.

موقع مجلة الأمان
حول تشييع شهداء عكار والتفاعل الوطني _د. وائل نجم